السلام عليكم ورحمة الله وبركاتهالحمد لله رب العالمين وحده لا يحمد على مكروه غيره والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد رسول الله وعلى أهله وآله وأزواجه وذريته وأصحابه وصلي وسلم وبارك اللهم على سائر الأنبياء والمرسلين والملائكة أجمعينورضي الله تعالى عن ساداتنا من الأولياء والصالحين ومشايخنا الأحياء والمنتقلين بارك الله فيك ونفع بك الاستحياء
ذكر أهل التفسير أن الاستحياء في القرآن على ثلاثة أوجه: -
ولم يفرقوا بين المقصور والممدود
أحدهما: الاستبقاء. ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {ويستحيون نساءكم}.
والثاني: الترك. ومنه قوله تعالى: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها}.
والثالث: من الحياء. ومنه قوله تعالى في الأحزاب: {إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم}. مفهوم الحـياء والاسـتحياء
في اللغة
الحياء بالمد التؤبة والحشمة–انظر -القاموس/فصل الحاء. باب: الواو و الياء
والاستحياء افتعال من الحياء، واشتقاقه من الحياة- انظر التبيان في تفسير غريب القرآن: ص:70. تفسير البيضاوي 1/255. وأمراض القلوب: 1/13.
خلافا لما أورده ابن فارس في المقاييس؛ إذ جعل مادة (ح ي ي) تدور على أصلين: الأول: خلاف الموت، والآخر: الحياء والاستحياء الذي هو ضد الوقاحة- انظر المقاييس مادة /حيي.
والاستحياء المبالغة في الحياء، فالسين والتاء فيه للمبالغة، مثل: استجاب واستأخر. ومن معانيه في المعاجم اللغوية: التؤبة والحشمة والانقباض والاستبقاء والامتناع والترك والانخزال والانقماع والانقلاع، وهي معان متقاربة ومتداخلة تدل على معنى الإحياء، كقول الذي حاج إبراهيم في ربه: "أَنَا أُحْـي وَأُمِيتُ" [البقرة، 258]، إشارة منه أنه قتل الأول، فهي إماتة، واستبقى وترك وامتنع عن قتل الآخر، فكان فعله إحياء بهذا المعنى. وسمي الفرج حياء- انظر - تهذيب اللغة/حيي. واللسان/حيا.
"لأنه يستحيى من كشفه"- تفسير الألوسي: 1/254.
أي: يمتنع الناس من إظهاره.
وقد يطلق الحياء على القيمة الخلقية المجردة، كما يطلق الاستحياء على فعل المتصف بخلق الحياء المرتبط بواقع عملي معين، فإذا أردنا القيمة الخلقية قلنا "الحياء"، وإذا أردنا وصف حالة من فيه حياء قلنا: استحيا، بإضافة السين والتاء، لذلك يستعمل الاستحياء بالصيغة الفعلية للتعبير عن خلق الحياء.
2- في الاصطلاح العام
قال الزمخشري في قوله تعالى: "وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ" [ الاَحزاب، 53]: "بمعنى لا يمتنع منه"- انظر- الكشاف للزمخشري 3/271.
وقيل في قوله تعالى: "وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ" [الاَحزاب، 53] لا يتركه- انظر - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/242.
قال الطبري في قوله تعالى: "وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ" [البقرة، 49] "يستبقونهن فلا يقتلونهن"ورد هذا المعنى في تفسير الطبري1/273-174، 9/27، 24/56.
وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ"[أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي]، وفي رواية أخرى: "وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ" أي اتركوهم واستبقوهم أحياء.
ومما قيل في تعريف الحياء والاستحياء:
أصل الاستحياء: الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح"- مجمع البيان للطبرسي: 1/163.
الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم" مفاتيح الغيب: 2/144-145. وانظر: الكشاف: 1/263.
وهو انقباض النفس من صدور فعل أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله، فهو هيبة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال بظهر أثرها على الوجه، وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يفعل" - التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور 1/361.
انقباض النفس من شيء وتركه، حذرا من اللوم فيه"- قواعد الفقه ص 270.
والحياء انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم. وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها، والخجل الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا. واشتقاقه من الحياة؛ فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها"- تفسير البيضاوي 1/254-255.
الحياء انقباض النفس عن عادة انبساطها في ظاهر البدن لمواجهة ما تراه نقصا حيث يتعذر عليها الفرار بالبدن. وقيل: انقباض النفس من شيء حذرا من الملام وهو نوعان نفساني وهو المخلوق في النفوس كلها كالحياء عن كشف العورة والجماع بين الناس وإيماني وهو أن يمتنع المسلم عن فعل المحرم خوفا من الله"- التوقيف على مهمات التعاريف: فصل الياء: ص:302.
3- في الاصطلاح القرآني والحديثي
ما ورد من الآيات في القرآن الكريم والحديث الشريف، يشعر بصحة نسبة الحياء والاستحياء إليه سبحانه، للناس فيه مذهبان، فمنهم من يقول بالتأويل، ومنهم من يكل علمه إلى الله سبحانه بعد التنزيه،فالحياء والاستحياء في القرآن الكريم والحديث الشريف، جاء صفة لكل من الله سبحانه والملائكة والأنبياء والناس.
وما ورد في القرآن الكريم من فعل الاستحياء منسوبا إلى الإنسان، ورد بمعناه اللغوي، وهو استبقاء الشيء حيا، إلا في موضع واحد من سورة القصص، قال تعالى: ( فَجَاءتْهُ إِحْدَايهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء (القصص، 25
و "على" للاستعلاء المجازي، تفيد التمكن من الوصف، أي تمشي غير مظهرة لزينتها ومفاتنها، فقد ورد في هذا الموضع بمعنى الحياء والاستحياء الذي سأبين معناه لاحقا.
فلا يذكر الاستحياء[15] بمعناه اللغوي في القرآن الكريم إلا مقترنا بمقابله، كالقتل أو ما هو منه كالذبح- وردت لفظة الاستحياء بالصيغة الفعلية مرادا بها الاستبقاء أصالة ستة مرات في القرآن الكريم وذلك في سورة البقرة: 48، والأعراف:126-141، وغافر:25، وإبراهيم 6، والقصص4.
ففي قصة فرعون مع بني إسرائيل، كان فرعون يقتل الأبناء ويستحيي النساء، قال تعالى: "يقتلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ" [الاَعراف، 141]؛ أي يزهقون أرواح الأبناء بالذبح ويستبقون النساء أحياء.- جاء هذا المعنى في مجمع البيان للطبرسي: 1/227-4/716- 6/467- 7/375.
وأقول في تعريفه والله الموفق: الحياء من الحياة، خلق حسن يمنع صاحبه عن القبائح مخافة نظر الله والناس، محله الوجه ومنبعه القلب.
والحياء غير الخجل الذي هو الانحصار عن الفعل مطلقا- انظر تفسير البيضاوي 1/254.
• تحليل عناصر التعريف
الحياء من الحياة, لأن حياة القلب هي المانعة من القبائح، والحي هو الذي يدفع ما يؤذيه، والميت أو الوقح لا يشعر بما يوجب امتناعه من القبائح، لأن الوقاحة من الصلابة واليبس المخالف لرطوبة الحياة. ولأن أكمل الناس حياة أشدهم حياء، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكمال حياته "أَشَدَّ حَيَاءً مِن الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا"
كما جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة وأحمد.
خلق حسن: لقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ"- أخرجه ابن ماجة في الحياء، وأخرجه مالك في الموطأ.
وهو خلق محبوب من الله والناس، لا يأتي إلا بخير، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ"- أخرجه البخاري ومسلم وأحمد.
وقد يكون جبليا في الإنسان، وهو المشار إليه في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج بن عَصَرٍ: "إِنَّ فِيكَ خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ." قُلْتُ: مَا هُمَا؟ قَالَ: "الْحِلْمُ وَالْحَيَاءُ". قُلْتُ: أَقَدِيمًا كَانَ فِيَّ أَمْ حَدِيثًا؟ قَالَ: "بَلْ قَدِيمًا." قُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا"- أخرجه أحمد في مسند الشاميين حديث وفد عبد القيس عن النبي، وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب.
وقد يكون كسيبا عن طريق التزكية والترقي في مراتب الإيمان والإحسان، ِعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَحْيُوا مِن اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ" قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: "لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدْ اسْتَحْيَا مِن اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ" أخرجه أبو داود وأحمد.
فتكون ثمرة الإيمان في خلق الحياء.
والقبائح: جمع قبيح وهو "ما ينبوا عنه البصر من الأعيان، وما تنبوا عنه النفس من الأعمال والأحوال"- المفردات مادة/ قبح.
مخافة نظر الله: أي أن المؤمن إذا قوي فيه خلق الحياء، قويت فيه الحياة، وأصبح يراقب أعماله وتصرفاته الظاهرة، وأحواله القلبية، مستشعرا فيها مراقبة الله عز وجل ونظره، وأنه يطلع على سره وعلانيته. فلم يجعل الله أهون الناظرين إليه، وبهذا المفهوم فإن الحياء مصدره الإيمان، فعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِن الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِن الْإِيمَانِ"- أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة وأحمد ومالك في الجامع.
ومصدره كذلك ذكر الله على الدوام؛ "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت- أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: فضل ذكر الله عز وجل.
ومن استحي من الله عند معصيته، استحى الله من عقوبته يوم يلقاه. ومن لم يستحي من الله تعالى من معصيته، لم يستحي الله من عقوبته" الجواب الكافي: ص: 46.
مخافة نظر الناس: والإشارة هنا إلى الحياء الطبيعي الجبلي، الذي يغرسه الله في النفوس كلها، كالحياء من كشف العورة، وغير ذلك مما تشمئز منه النفوس والعقول السليمة. وإليه الإشارة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لسعيد بن يزيد الأزدي: "أوصيك أن تستحيي من الله عز وجل كما تستحيي من الرجل الصالح من قومك"أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والبيهقي في شعب الإيمان.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فِيكَ خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ." قُلْتُ: مَا هُمَا؟ قَالَ: "الْحِلْمُ وَالْحَيَاءُ". قُلْتُ: أَقَدِيمًا كَانَ فِيَّ أَمْ حَدِيثًا؟ قَالَ: "بَلْ قَدِيمًا." قُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا" أخرجه أحمد وأبو داود. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَإِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنُعُنِي الْحَيَاءُ مِنْكُمْ أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا. قَالَ: "لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ مُحَمَّد" أخرجه أحمد وابن ماجة.
محله الوجه: أي أن الحيي يظهر على الوجه التأثر بالقبيح، بخلاف صليب الوجه الوقح الذي لا يفرق بين القبيح والحسن. فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا. فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ" أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة وأحمد
ومنبعه القلب: للدلالة على أن القلب هو مقر الحياة الحقيقية، فالمستحيي له إرادة تمنعه من الاقتراب من كل قبيح. بخلاف من لا حياء و لا إيمان معه يزجره عن ذلك، وهو المشار إليه في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "...أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة والدارمي.