حي الأزاريطة بالإسكندرية

عضو نشط

حي الأزاريطة بالإسكندرية

شهد غرام كليوباترا ومارك أنطونيو وخصصه محمد علي للحجر الصحي

عاشت كليوباترا الملكة الساحرة، وولدت قصة حبها مع مارك أنطونيو. وعلى مرمى البصر وقعت معركة أكتيوم البحرية؛ وانهزمت كليوباترا وحبيبها. وهنا كان الحي الملكي «البركيون» الذي ضم المكتبة القديمة والمجمع العلمي «الموسيون» اللذين استمرا يبثان العلم لجميع أنحاء العالم حتى عام 272م، إلى أن أحرق الإمبراطور أوريليان الحي بأكمله بما فيه من معابد ومقابر ملكية. إنه حي «الأزاريطة»، تميمة إسكندرانية معلَّقة ما بين منطقة محطة الرمل وحيّ الشاطبي، وفي شوارعه وأزقته وميادينه تتلخص أهم ملامح حلقات تاريخ عروس المتوسط.. فبمجرد أن تقع عيناك على تمثال «الأشرعة» للنحات المصري فتحي محمود، في مواجهة مكتبة الإسكندرية، حتى تعلن أشرعته البيضاء عن بداية حي الأزاريطة. يستوحي التمثال قصة خلق الإسكندرية من خلال أسطوره قديمة عن إله البحر الذي يتمثل أحيانا في هيئة ثور قد أحكم قبضته على فتاة جميلة ترمز إلى الإسكندرية. انتصب تمثال «الأشرعة» في عام 1968 على نتوء قديم عرف بــ«رأس لوكياس»، ويتميز النتوء بسلسلة طويلة من الصخور. وقد اكتشفت بقايا أسوار الإسكندرية الإغريقية تحت مياه السلسلة، كما عثر على بقايا عمدان وتيجان وعملات فضية.

يقول الدكتور عزت قادوس، أستاذ الآثار اليونانية والرومانية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية «إن رأس لوكياس توجد في نفس مكان القصر الملكي لكليوباترا، وكان يوجد معبد إيزيس لوكياس، ثم معبد بوسيدون إله البحار، واستراحة ماركوس أنطونيوس«التيمونيوم»». وأضاف أن «حي الأزاريطة احتضن المسرح البطلمي الذي كان مقرا لاجتماعات الشعب، والذي شهد أيضا ثورة ضد اليهود». تعتبر «الأزاريطة»، أو كما يسميها السكندريون «المزاريطة» أحد أشهر أحياء الإسكندرية. ويرجع تاريخها إلى فترة حكم «محمد علي باشا» الذي أراد النهوض بالإسكندرية؛ فأنشأ بها مجلسا صحيا، إلا أنه ـ بعد انتشار مرض الكوليرا ـ فكر في إدخال نظام الحجر الصحي المعمول به في أوروبا؛ فجمع قناصل الدول، وشكّل منهم لجنة؛ وأصدر بعدها قرارا بإنشاء أول محجر صحي يقع بجانب الميناء الشرقي الذي ترسو به سفن الجاليات الأوروبية والأجنبية. ويشغل حاليا مكانه مستشفى الجامعة الرئيسي «الأميري». وقد أطلق عليه اسم «لازاريت»، (Lazarette)، نسبة إلى أول محجر صحي تم بناؤه في فرنسا في جزيرة «سانت ماري دو نازاريه»، حيث كان يفد إليها القادمون من الشرق؛ فأقاموا هذا المحجر كنوع من الرعاية الصحية. ولفظ لازاريت (Lazarette) أصله لاتيني، ومعناه (Ladre)، أي الأبرص أو المجزوم، حيث كانت الدول الرومانية تبالغ في الحجر على المجذومين، فكانوا يضعوهم في الحجر طوال حياتهم، ومن ذلك اللفظ اشتقت كلمة (الأزاريطة).

وتعج منطقة الأزاريطة بالعديد من الهيئات والمؤسسات، منها: مبنى مستشفى الجامعة الرئيسي، ومجمع كليات الطب التابع لجامعة الإسكندرية، وديوان حي وسط الإسكندرية، ومبنى هيئة الرقابة الإدارية بالإسكندرية، وقنصليتا اليونان وقبرص.

لا يزال الطابع المعماري للحي متميزا، حيث توجد فيلات وقصور شيدت في فجر القرن الـ19، وما زالت محتفظة برونقها حتى الآن. كما توجد بعض العمارات التي شيدها المعماريون الإيطاليون الذين تركوا بصماتهم على أجمل مباني ومساجد المدينة، حيث تزدان العمارات بالزخارف والتيجان، والبعض منها محفور عليه تاريخ التشييد، واسم المعماري الذي شيدها؛ مما يجعل الترجل بين جنبات هذا الحي متعة، وكأن المترجل في هذا الحي في جولة بين متحف مفتوح يجسد العالم الكوزموبوليتاني في الإسكندرية منذ أكثر من مائة عام. ولعل أجمل القصور الموجودة في ميدان الخرطوم حتى الآن فيلا جوهر «أبو الفضل» التي صممها المعماري غريباري في عام 1935، وهي ذات طابع إيطالي راق، ويعلوها برج مزخرف، وهي ترسم خلفية رائعة لميدان الخرطوم. عرفت الأزاريطة بسكانها من الجاليات المختلفة، وبالأخص اليونانيين الذين كانوا يمثلون غالبية السكان، واشتغلوا بالتجارة والبقالة، حيث يوجد المربع اليوناني بالحي، وهو يضم المدرسة اليونانية«سالفاجو»، والملجأ اليوناني «مانا». وكانت الجالية تجتمع بمقر النادي اليوناني الذي يقف على ناصية شارع «سوتر»، فكانت موسيقى الحفلات الصاخبة تدوي في أرجاء هذا الحي. وعندما هجروا الإسكندرية عقب ثورة يوليو (تموز) عام 1952، تحولت محالهم إلى ورشات للحرفيين، وورشات قطع غيار السيارات، وسكن بيوتهم المصريون، إلا أن إعادة إحياء مكتبة الإسكندرية بحي الشاطبي المتاخم لحي الأزاريطة أعاد له رونقه - بعض الشيء - حيث تقف المكتبة الجديدة بمبناها المتميز على حدود الحي، يجاورها مسرح «كوتة» الشهير الذي يعد أحد أهم المسارح بالإسكندرية، وتجاوره أرض المعارض التي يقام عليها سنويا معرض الإسكندرية للكتاب. ويخترق الحي العريق ترام الرمل الأزرق. ومن أهم الشوارع التي يشتهر بها حي الأزاريطة شارع «سوتر»، وهو لقب بطليموس الأول الذي تولى الحكم بعد وفاة الإسكندر الأكبر. وهو من أكثر الشوارع ازدحاما على مدار اليوم، لأنه يطل على مجمع الكليات النظرية بجامعة الإسكندرية. ومن سوتر إلى شارع البطالسة المليء بالقصور والفيلات التي تحولت إلى مراكز ثقافية أجنبية، نجد المركز الثقافي الألماني «جوته»، وفي مواجهته المركز الثقافي الروسي، وفي شارع الفراعنة المتاخم للبطالسة يوجد المركز الثقافي الأمريكي، الذي كان سابقا فيلا لعائلة سكندرية ثرية. يتميز حي الأزاريطة بميدان الخرطوم الذي كان يطلق عليه «ميدان سعيد»، وسمي بالخرطوم بعد استرداد الخرطوم في الثاني من سبتمبر (أيلول) 1898م. وهو ميدان يتوسطه عمود بطلمي ضخم، وكان يوجد على جانبي العمود تمثال للإلهة سخت ذات رأس الأسد. ويروى أن هذا الميدان كان يشهد جلوس ندّابات محترفات من السيدات السكندريات اللاتي يجلسن أحيانا في أعداد هائلة ينتظرن خروج أي جنازة من المستشفى الحكومي الكائن خلفهن. وبالقرب من ميدان الخرطوم يوجد «أتيليه الإسكندرية»، أقدم وأهم الجمعيات الأهلية الثقافية في المجتمع المدني. أسسه الفنان محمد ناجي، رائد فن التصوير الحديث، وكان ذلك في عام 1934، ثم أنشأ بعد ذلك آتيليه القاهرة في عام 1952م. وتضم منطقة الأزاريطة أيضا «حدائق الشلالات» التي كانت تعرف فيما سبق بـ«حدائق البلدية»، التي صممها مونفرونت، وهي حدائق تمتد بمحاذاة خط الأسوار العربية التي شيدها أحمد بن طولون في القرن الثالث الهجري. وهي حدائق ذات طراز ينتمي إلى العصور الوسطى، تتوسطها بحيرة صناعية تعيش فيها أسراب من البط والبجع. كان يوجد بهذه الحديقة تمثال لنوبار باشا من صنع «بويش»، كتب عليه لوحة بالفرنسية تقول«العدل أساس الملك»، ولكن تم نقله إلى مكان آخر في أعقاب ثورة يوليو (تموز). وينتهي حي الأزاريطة بمسجد القائد إبراهيم، الذي سمي على اسم ابن والي مصر محمد علي. يضم مسجد القائد إبراهيم ثريا أهداها الملك فاروق بمناسبة تشييده، أما عمارة المسجد، فهي متميزة ومتناسقة بصريا، حيث وضع تصميمه المهندس المعماري الإيطالي ماريو روسي عام 1948، فلم يكن لمسجد القائد إبراهيم وجود في أوائل الأربعينات من القرن الماضي بميدان محطة الرمل، وقد تم افتتاحه في ذكرى مرور مائة عام على وفاة القائد العظيم إبراهيم باشا بن محمد علي، والي مصر. وبالرغم من انتقاء روسي لزخارف تمثل عمارة بعض العصور والفترات السابقة، إلا أن عمارة «روسي» الخاصة، كأسلوب ومنهاج، كانت قد بدأت في الظهور كصاحب اتجاه مستقل في تصميمه لهذا المسجد الذي استطاع بمئذنته الرشيقة الشاهقة أن يتغلب على ارتفاع المباني والعمارات المحيطة، ليتسامى المسجد بذاته عنها. وتوجد في أسفل المئذنة ساعة، كما تجاور المسجد دار للمناسبات، ويعتبر المسجد أحد أهم علامات العمارة الإسلامية الحديثة في الإسكندرية. شهد حي الأزاريطة تواجد شخصيات تاريخية عظيمة، ومن بين هذه الشخصيات: أفلاطون أشهر الفلاسفة الإغريق، وأرخميدس عالم الطبيعة والرياضيات الشهير، والفيلسوفة السكندرية الشهيرة هيباثيا. ولعل أشهر من قطنوا هذا الحي في العصر الحديث، المخرج العالمي يوسف شاهين الذي ولد في منزل يعلوه كازينو شهير كان اسمه «تيك تاك بوم»، وكان جنود الاحتلال الإنجليزي يقضون سهراتهم فيه، وقد استعان شاهين بهذا الاسم في فيلم «انت حبيبي»، بطولة شادية، وفريد الأطرش، وهند رستم. وهكذا مرت السنون على حي الأزاريطة، ليتحول من حجر صحي للمجذومين إلى بوتقة للعلم والمعرفة، سواء من طلاب جامعة الإسكندرية، أو من رواد مكتبتها، مما أنعش الحي تجاريا؛ وأصبح يمتلئ بالمطاعم بشتى أصنافها ومحال خدمات التصوير والطباعة.

» "كوم الدكة" بالإسكندرية
» مسجد الإمام البوصيري بالإسكندرية - مصر
» زيارتي لبيت رية وسكينة بالإسكندرية