خروج الدابة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب فمنه بدأ وإليه يعود, والحمد لله الذي بوأ لإبراهيم مكان البيت للركوع والسجود, وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وعنده علم الساعة وإليه المآب والرجوع, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ شهيد, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الرسل وخلاصة العبيد, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في التقوى والقول السديد, وسلم تسليماً كثيراً,أما بعد:
فإن تقوى الله سبب لسعادة الدنيا والآخرة, ومن يتق الله يجعل له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً, وييسر له أمره وينور له قلبه, ويغفر له ذنبه.
ألا وإن التقوى هي اتخاذ ما يقي من عذاب القبر وعذاب الجحيم, ولا يكون ذلك إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي والخوف من الرب العظيم, ولا يكون ذلك إلا بتقديم العدة والاستعداد لليوم الآخر العظيم, ذلك اليوم الذي نحشر فيه إلى الله حافية أقدامنا, عارية أجسامنا, شاخصة أبصارنا, ذاهلة عقولنا.
ولما كان هذا اليوم عظيم الأهوال شديد الأحوال فقد قدم الله بين يديه من العلامات والدلائل ما يبين به اقترابه ليستعد له ويحذرعذابه1.
ألا وإن من دلائل قرب القيامة: أشراط الساعة الكبرى، ومن ذلك: خروج دابة من الأرض في آخر الزمان تكلم الناس وتسميهم مؤمناً وكافراً، وذلك عند فساد الناس وتركهم أوامر الله تعالى.
والكلام على هذه العلامة سيشتمل -بعون الله- على المسائل التالية:
أولاً: الأدلة من الكتاب والسنة على خروجها:
فمن نصوص الكتاب والسنة الدالة على خروج الدابة قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (82) سورة النمل. فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن معنى تكلمهم: تجرحهم، بمعنى تكتب على جبين الكافر كافراً، وعلى جبين المؤمن مؤمناً, وروي عنه أيضاً بمعنى تخاطبهم2.
قال الحافظ ابن كثير: "هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق, يخرج الله لهم دابة من الأرض فتكلم الناس على ذلك"3.
وقال الألوسي: "أي تكلمهم بأنهم لا يتيقنون بآيات الله تعالى الناطقة بمجيء الساعة ومباديها أو بجميع آياته التي من جملتها تلك الآيات"4.
ومن أدلة السنة:
حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثم تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم (أي أنوفهم), ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل البعير، فيقال: ممن اشتريت؟ فيقول: اشتريته من أحد المخطمين)5.
ومنها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة)6.
ومنها حديث حذيفة بن أسيد -رضي الله عنه- قال: اطلع النبي -صلى الله عليه وسلم- علينا ونحن نتذاكر، فقال: (ما تذاكرون)؟: قالوا: نذكر الساعة, قال: (إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات), فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم"7.
ومنها حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثاً لم أنسه بعد، سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا)8.
ثانياً: صفة الدابة:
اختلف العلماء في صفة الدابة إلى عدة أقوال
القول الأول: أنها فصيل ناقة صالح..
قال القرطبي: "أولى الأقوال أنها فصيل ناقة صالح وهو أصحها، والله أعلم"9.
واستدل بحديث حذيفة الأنصاري المكنى بأبي سريحة -رضي الله عنه- قال: ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدابة فقال: (لها ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية (يعني مكة) ثم تكمن زمناً طويلاً، ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية, ويدخل ذكرها القرية) (يعني مكة) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض رأسها عن التراب فتركض الناس منها شتى ومعاً، وتثبت عصابة من المؤمنين عرفوا أنهم لم يعجزوا الله فبدأت بهم، فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري، وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه، فتقول: يا فلان: الآن تصلي! فتقبل عليه فتسمه في وجهه)10. ووجه الدلالة من هذا الحديث قوله: وهي ترغو والرغاء للإبل11. لكن الحديث ضعيف كما ذكر الهيثمي أن فيه رجلاً متروكاً.
وقال القرطبي: "وقد قيل: إن الدابة التي تخرج هي الفصيل الذي كان لناقة صالح -عليه السلام- فلما قتلت الناقة هرب الفصيل بنفسه فانفتح له حجر فدخل فيه ثم انطبق عليه فهو فيه إلى وقت خروجه حتى يخرج بإذن الله تعالى, ويدل على هذا القول حديث حذيفة المذكور في هذا الباب وفيه: وهي ترغو والرغال إنما هو للإبل, و الله أعلم". ولقد أحسن من قال:12
واذكر خروج فصيل ناقة صالح = يَسِم الورى بالكفر والإيمان
القول الثاني: أنها دابة جمعت من خلق كل حيوان..
القول الثالث : أنها إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم حتى يتبين الصادق من الكاذب فيحيا من حيَّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وقد رد القرطبي -رحمه الله تعالى- على هذا القول وبين أنه قول فاسد مخالف لظاهر الآية والأحاديث الصحيحة فقال -رحمه الله-: "وإنما كان هذا القائل الأقرب لقوله تعالى: {تُكَلِّمُهُمْ}، وعلى هذا فلا يكون في هذه الدابة آية خاصة خارقة للعادة، ولا تكون من العشر آيات المذكورة في الحديث؛ لأن وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثير، فلا آية خاصة بها، فلا ينبغي أن تذكر مع العشر، وترتفع خصوصية وجودها إذا وقع القول، ثم فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي على أهل الأرض أن يسموه باسم الإنسان أو بالعالم أو بالإمام إلى أن يسمى بدابة، وهذا خروج عن عادة الفصحاء، وعن تعظيم العلماء، وليس ذلك دأب العقلاء، فالأولى ما قاله أهل التفسير، والله أعلم بحقائق الأمور"13.
القول الرابع: أنها الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة.
القول الخامس: أنها دابة مزغبة شعراء ذات قوائم، طولها ستون ذراعاً، ويقال: إنها الجساسة المذكورة في حديث تميم الداري -رضي الله عنه- والذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقول فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها-وهي تحكي قصة اعتدادها بعد وفاة زوجها ابن المغيرة عند ابن عمها عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم: "فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي -منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد، فصليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم، فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاته، جلس على المنبر وهو يضحك فقال: (ليلزم كل إنسان مصلاه)، ثم قال: (أتدرون لم جمعتكم)؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: (إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة, ولكن جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال: حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهراً في البحر ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة، فلقيهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قُبلُهُ من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت؟! فقالت: أنا الجساسة, قالوا: وما الجساسة؟ قالت : أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق, قال: لما سمت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً، وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه وما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك، ما أنت؟! قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهراً ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه فجلسنا في أقربها فدخلنا الجزيرة، فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر، لا يدرى ما قُبلُهُ من دبره من كثرة الشعر, فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة: قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق, فأقبلنا إليك سراعاً, وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة، فقال: أخبروني عن نخل بَيْسان؟, قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قلنا له: نعم, قال: أما إنه يوشك أن لا يثمر, قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية؟ قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثير الماء, قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب, قال: أخبروني عن عين زُغَر؟ قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها, قال: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب, قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم, قال كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم, قال: أما إن ذلك خير لهم أن يطيعوه, وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحداً منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتاً يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها", قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطعن بمخصرته في المنبر: (هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة) -يعني المدينة- (ألا هل كنت حدثتكم ذلك)؟ فقال الناس: نعم, قال: (فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة, ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن, لا بل من قبل الشرق ما هو من قبل المشرق، ما هو من قبل المشرق، ما هو) وأومأ بيده إلى المشرق، قالت: فحفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم"14. وسميت بالجساسة ؛ لأنها تجس الأخبار للدجال.
القول السادس: أنها اسم جنس لكل ما يدب وليست حيواناً مشخصاً معيناً يحوي العجائب والغرائب، ولعل المقصود من هذا ما ذهب إليه بعض المتأخرين من أن الدابة نوع من الحشرات الموجودة الآن، وأنها ستكثر لأي سبب من الأسباب، فيكون هجومها على الناس على ضعفها وصغر حجمها وتحميلهم الأذى الكبير وعجزهم عن مقاومتها مع ما أوتوه من بسطة العلم والحيلة، آية من آيات الله.
وبعضهم قال إنها الجراثيم الخطيرة التي تفتك بالإنسان، وهذه لا شك أنها تأويلات فاسدة وباطلة؛ لأنها تكذيب للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبر به عن هذه الدابة.
قال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله-: "والآية صريحة بالقول العربي أنها دابة، ومعنى الدابة في لغة العرب معروف واضح، لا يحتاج إلى تأويل، وقد بين الحديث بعض فعلها، ووردت أحاديث كثيرة في الصحاح وغيرها بخروج هذه الدابة الآية، وأنها تخرج آخر الزمان، ووردت آثار أخر في صفتها لم تنسب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المبلغ عن ربه والمبين آيات كتابه، فلا علينا أن ندعها, ولكن بعض أهل عصرنا من المنتسبين إلى الإسلام، الذين فشا فيهم المنكر من القول، والباطل من الرأي، الذين لا يريدون أن يؤمنوا بالغيب، ولا يريدون إلا أن يقفوا عند حدود المادة التي رسمها لهم معلموهم وقدوتهم من ملحدي أوربا الوثنيين الإباحيين، المتحللين من كل خلق ودين, فهؤلاء لا يستطيعون أن يؤمنوا بما نؤمن به، ولا يستطيعون أن ينكروا إنكاراً صريحاً، فيجمجمون ويحاورون ويداورون، ثم يتأولون فيخرجون الكلام عن معناه الوضعي الصحيح للألفاظ في لغة العرب، يجعلونه أشبه بالرموز، لما وقر في أنفسهم من الإنكار الذي يبطنون! بل إن بعضهم لينقل التأويل عن رجل هندي معروف أنه من طائفة تنتسب للإسلام، وهي له عدو مبين، وعبيد لأعدائه المستعمرين! فانظر إليهم أنى يترددون ويصرفون؟ وأي نار يقتحمون؟ ذلك بأنهم بآيات الله لا يوقنون"15.
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى صفات لهذه الدابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام لم تذكر فيما سبق، فلا بأس من ذكرها هنا:
"عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تخرج دابة الأرض، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، عليهما السلام، فتخطم أنف الكافر بالعصا، وتُجلي وجه المؤمن بالخاتم، حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر". ورواه الإمام أحمد، عن بَهْز وعفان ويزيد بن هارون، ثلاثتهم عن حماد بن سلمة، به. وقال: "فتخطم أنف الكافر بالخاتم، وتجلو وجه المؤمن بالعصا، حتى إن أهل الخوان الواحد ليجتمعون فيقول هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر".16
حديث آخر: عن عبد الله بن بُرَيدة، عن أبيه قال: ذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع بالبادية، قريب من مكة، فإذا أرض يابسة حولها رمل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تخرج الدابة من هذا الموضع). فإذا فِتْر في شبر".
قال ابن بُرَيدة: فحججت بعد ذلك بسنين، فأرانا عصًا له، فإذا هو بعَصاي هذه، كذا وكذا.17
وقال ابن عباس: هي دابةٌ ذات زَغَب، لها أربع قوائم، تخرج من بعض أودية تهامة.
وعن عطية قال: قال عبد الله: تخرج الدابة من صِدْع من الصفا كجَرْي الفرس ثلاثة أيام، لم يخرج ثلثها.
وقال محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح قال: سئل عبد الله بن عمرو عن الدابة، فقال: الدابة تخرج من تحت صخرة بجياد، والله لو كنت معهم -أو لو شئت بعصاي الصخرة التي تخرج الدابة من تحتها. قيل: فتصنعُ ماذا يا عبد الله بن عمرو؟ قال: تستقبل المشرق فتصرخ صرخة تنفُذُه، ثم تستقبل الشام فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تستقبل اليمن فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تروح من مكة فتصبح بعسفان. قيل: ثم ماذا؟ قال: لا أعلم.
وعن عبد الله بن عمر، أنه قال: "تخرج الدابة ليلة جَمْع" (أي ليلة عرفة). ورواه ابن أبي حاتم. وفي إسناده ابن البيلما
وعن وهب بن منبه: أنه حكى من كلام عُزَير، عليه السلام، أنه قال: وتخرج من تحت سدوم دابة تكلم الناس كل يسمعها، وتضع الحبالى قبل التمام، ويعود الماء العذب أجاجًا، ويتعادى الأخلاء، وتُحرَقُ الحكمة، ويُرفَعُ العلم، وتكلم الأرض التي تليها. وفي ذلك الزمان يرجو الناس ما لا يبلغون، ويتعبون فيما لا ينالون، ويعملون فيما لا يأكلون. رواه ابن أبي حاتم، عنه.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إن الدابة فيها من كل لون، ما بين قرنيها فرسخ للراكب.
وقال ابن عباس: هي مثل الحربة الضخمة.
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: إنها دابة لها ريش وزغب وحافر، وما لها ذنب، ولها لحية، وإنها لتخرج حُضْر الفرس الجواد ثلاثا، وما خرج ثلثها. ورواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جُرَيْج عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيَّل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نَمر، وخاصرتها خاصرة هِرّ، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعًا، تخرج معها عصا موسى، وخاتم سليمان، فلا يبقى مؤمن إلا نَكتَت في وجهه بعصا موسى نكتة بيضاء، فتفشو تلك النكتة حتى يبيضّ لها وجهه، ولا يبقى كافر إلا نَكَتت في وجهه نكتة سوداء بخاتم سليمان، فتفشو تلك النكتة حتى يسود لها وجهه، حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق: بكم ذا يا مؤمن، بكم ذا يا كافر؟ وحتى إنّ أهل البيت يجلسون على مائدتهم، فيعرفون مؤمنهم من كافرهم، ثم تقول لهم الدابة: يا فلان، أبشر، أنت من أهل الجنة، ويا فلان، أنت من أهل النار. فذلك قول الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ}.18 هذا ما ذكره الإمام ابن كثير في تفسيره، فالله أعلم بتلك الصفات.
فالواجب على كل مؤمن الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى سيخرج للناس دابة مخالفة لما يعتاده الناس تكلمهم وتختم على الكافر بالكفر وعلى المؤمن بالإيمان ، وهذا من الإيمان بالغيب الذي مدح الله به المؤمنين.
يقول العلامة عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-: "وهذه الدابة هي الدابة المشهورة التي تخرج في آخر الزمان وتكون من أشراط الساعة، كما تكاثرت بذلك الأحاديث"19, ولم يذكر الله ورسوله كيفية هذه الدابة، وإنما ذكر أثرها والمقصود منها، وأنها من آيات الله تكلم الناس كلاماً خارقاً للعادة حين يقع القول على الناس، وحين يمترون بآيات الله فتكون حجة وبرهاناً للمؤمنين وحجة على المعاندين.
ثالثاً: مكان خروج الدابة:
اختلف العلماء في مكان خروج الدابة إلى عدة أقوال:
القول الأول: أنها تخرج من جبل الصفا أو من المسجد الحرام بمكة المكرمة, قال القرطبي: "واختلف من أي موضع تخرج، فقال عبد الله بن عمر: تخرج من جبل الصفا بمكة، يتصدع فتخرج منه، وقال عبد الله بن عمرو نحوه، قال: لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت".
ومما يدل على خروجها من أعظم المساجد، ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن حذيفة بن أسيد قال: "تخرج الدابة من أعظم المساجد، فبينا هم إذ دبت الأرض فبينا هم كذلك إذ تصدعت"
قال ابن عيينة: تخرج حين يسوي الإمام الجمع، وإنما جعل سابقا ليخبر الناس أن الدابة لم تخرج, قال محمد صديق حسن خان: وهو المشهور.
القول الثاني: أن لها خرجات، الأولى من أقصى البادية، ثم تختفي، ثم تخرج من بعض أودية تهامة، ويصدق عليها أنه من وراء مكة، وفي المرة الأخيرة تخرج من مكة, وهذا القول الأخير هو الذي يجمع بين الأقوال في خروجها.
يقول السخاوي -رحمه الله-: وتخرج كما في بعض المرفوعات أو الموقوفات ثلاث خرجات من الدهر، فمرة من أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية، يعني مكة، ثم تكمن زمانا طويلا ثم تخرج مرة أخرى دون تلك فيعلو ذكرها في أهل البادية ويدخل ذكرها القرية، يعني مكة
ويقول محمد صديق حسن خان بعد ذكره للأقوال في خروج الدابة: ويجمع بين هذه الأقوال بما جاء في الأحاديث المرفوعة والموقوفة كما قال السخاوي وغيره من أنها تخرج ثلاث خرجات، ثم ذكر كلام السخاوي السابق.
رابعاً: عمل الدابة:
عمل هذه الدابة كما جاءت به الأحاديث أنها تسم الناس المؤمن والكافر، حتى إنه جاء في بعض الروايات: فتلقى المؤمن فتسمه في وجهه، ويشترك الناس في الأقوال ويصطحبون في الأمصار، يعرف المؤمن الكافر وبالعكس, قال ابن كثير: وعن ابن عباس: تكلمهم، تجرحهم، يعني تكتب على جبين الكافر كافر، وعلى جبين المؤمن مؤمن، ومنه تخاطبهم، وتخرجهم، وهذا القول ينتظم من مذهبين وهو قوي حسن جامع، والله تعالى أعلم, ويتلخص عمل الدابة في الأمور التالية:
1- أنها تكلم الناس.
2 - تسم المؤمن بعلامة وتجلو وجهه حتى ينير.
3 - أنها تسم الكافر بعلامة قيل: هي خطم الأنف, قال ابن الأثير : يعني تصيبه فتجعل له أثرا مثل أثر الخطام20.
نسأل الله أن يختم لنا بخير, وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن, إنه سميع مجيب, والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصادر
1 من كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع لـ(ابن عثيمين) بتصرف يسير.
2 تفسير القرطبي (ج 13 / ص 238) وتفسير ابن كثير (ج 6 / ص 210).
3 تفسير ابن كثير (ج 6 / ص 210).
4 تفسير الألوسي (ج 15 / ص 44).
5 رواه أحمد برقم (21276) (ج 45 / ص 271) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة المختصرة برقم (322).
6 رواه مسلم برقم (5240) (ج 14 / ص 184).
7 رواه مسلم برقم (5162) (ج 14 / ص 94).
8 رواه مسلم برقم (5234) (ج 14 / ص 176).
9 تفسير القرطبي (ج 13 / ص 235).
10 رواه الحاكم في المستدرك برقم (8627) (ج 19 / ص 387) والطبراني في المعجم برقم (2964) (ج 3 / ص 286) وفيه طلحة بن عمرو وهو متروك كما قال صاحب مجمع الزوائد (ج 8 / ص 7).
11 تفسير القرطبي (ج 13 / ص 235)..
12 التذكرة للقرطبي (ج 5 / ص 19).
13 تفسير القرطبي (ج 13 / ص 236).
14 رواه مسلم برقم (5235) (ج 14 / ص 178) وأبو داود برقم (3767) (ج 11 / ص 403).
15 أشراط الساعة لـ(عبد الله بن سليمان الغفيلي) (ص 210).. وكلام أحمد شاكر نقله الغفيلي من تحقيق مسند أحمد، لأحمد شاكر ( 15 / 82 ).
16 قال شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف.
17 رواه أحمد وابن ماجه واللفظ له، قال الألباني عن هذا الحديث: ضعيف جداً.
18 تفسير ابن كثير ، (ج 6 / ص 212-214).
19 تفسير السعدي (ج 1 / ص 610).
20 أشراط الساعة لـ(عبد الله بن سليمان الغفيلي).
المصدر
https://www.alimam.ws/ref/2098