نقد رسالة في إستحسان الخوض في علم الكلام
المؤلف: أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري (المتوفى: 324 هـ)
هذه الرسالة من الرسائل القليلة التى تستحسن الخوض في علم الكلام فكم الرسائل الذامة له أكبر بكثير خاصة من أهل الحديث وأما المتكلمون فهم لم يؤلفوا فى استحسان علم الكلام إلا النادر من الرسائل مثل هذه الرسالة والغريب أنه لا يوجد أحد سواء من أهل الحديث أو من أهل الكلام إلا وخاض فى هذا العلم بطريقة أو يأخرى فأى مسألة خلافية حتى ولو استشهد عليها بروايات فقط هى نوع من علم الكلام
علم الكلام هو علم يقوم على الجدال وهو أن يظهر كل فريق رأيه فى مسألة ما بالأدلة والبراهين من الوحى والروايات وأحيانا ما يسمونه النظر العقلى وهو أساسا جزء من الوحى ولكن الناس لا يدرون بذلك
والرسالة تدور حول مقولة ذم البعض للخوض فى علم الكلام والغريب أن علم الكلام هو الجدل وهو أمر أباحه الله شرط أن يكون بالحسنى أى التى هى أحسن فقال :
" وجادلهم بالتى هى أحسن"
وقال :
"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن"
وهذا الجدال هو الجدال بآيات الله
ومن ضمن الجدال ما يسمى بالنظر العقلى وهو أمر قد يصيب أو يخطىء فمثلا النبى(ص) والمؤمنين عندما نظروا فى القضية التى اتهم فيها برىء أخطئوا النظر حيث هاجموا البرىء وجادلوا عن الذين ارتكبوا الجريمة والذين أضلوهم عن الحقيقة ببراهين مصطنعة حتى نزل أمر الله إليهم بالكف عن الجدال عن المرتكبين للجرم والذى اتهموا به بريئا وفى هذا قال تعالى :
"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما"واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما"ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما"يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا"ها أنتم جادلتم عنهم فى الحياة الدنيا فمن يجادل عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا"ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما"ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما"ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا"ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شىء"
ومن بين النظر العقلى الخاطىء قول الأسباط عن أخويهم:
" إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل "
فالمترتب عندهم عقليا أن الأخ يتعلم السرقة من أخيه مع أنهم اخوة الاثنين ومع هذا لم يسرقوا كما يظنون
ومن النظلا الصحيح ما قاله قريب العزيز عن أن من يريد الاغتصاب الشهوانى سيهاجم من الأمام فيقطع ثوبه من الأمام وأن من يريد الهرب من الزنى من تريد الاغتصاب ستجرى خلفه عند هروبه وتقطع ثوبه من الخلف وفى هذا قال تعالى :
"قال هى راودتنى عن نفسى وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين"
النظر العقلى إذا قد يخطىء إما بسبب الشهوة وساعتها لا يكون نظرا عقليا وإنما نظرا شهوانيا أى يطاع فيه هوى النفس وإما بسبب إضلال الأخرين للناظر ويسمى عقليا لأنه حدث بسبب خداع من الأخرين أو من النفس للناظر حيث يعطونه معلومات خاطئة وقد يصيب وهو عند الإصابة نظر عقلى
قال الأشعرى فيمن ذم علم الكلام فقال :
"أما بعد فإن طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين , ومالوا إلى التخفيف والتقليد , وطعنوا على من فتش عن أصول الدين ونسبوه إلى الضلال , وزعمو أن الكلام عن الحركة والسكون والجسم والعرض والألوان والأكوان والجزء والطفرة وصفات البارئ عز وجل بدعة وضلالة ."
ثم بين حججهم فى الذم فقال:
"قالوا : "لو كان ذلك هدى ورشدا لتكلم فيه النبي (ص)وخلفاؤه وأصحابه
قالوا : "ولأن النبي (ص)لم يمت حتى تكلم في كل ما يحتاج إليه في أمور الدين , وبينه بيانا شافيا ولم يترك لأحد من بعده مقالا فيما بالمسلمين إليه حاجة من أمور دينهم فلما لم يرو عنه الكلام في شيء مما ذكرناه علمنا أن الكلام فيه بدعة والبحث عنه ضلالة , لأن لو كان فيه خير لما فات النبي (ص)وأصحابه ولتكلموا فيه .
قالوا : "ولأنه ليس يخلوا ذلك من وجهين : إما أن يكونوا علموه فسكتوا عنه أو لم يعلموه بل جهلوه , فإن كانو علموه ولم يتكلمو فيه وسعنا أيضا نحن السكوت عنه كما وسعهم السكوت عنه , ووسعنا ترك الخوض كما وسعهم ترك الخوض فيه ولأنه لو كان من الدين ما وسعهم السكوت عنه وإن كانوا لم يعلموه وسعنا جهله كما وسع أولئك جهله , لأنه لو كان من الدين لم يجهلوه فعلى كلا الوجهين الكلام فيه بدعة والخوض فيه ضلالة ."
ورد الأشعرى على الحجج الواهية فقال:
"فهذه جملة ما احتجوا به في ترك النظر في الأصول والجواب عنه من ثلاثة أوجه :
أحدها : قلب السؤال عليهم بأن يقال : النبي (ص)لم يقل أيضا إنه من بحث عن ذلك وتكلم فيه فاجعلوه مبتدعا ضالا , فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة ضلالا إذ قد تكلمتم في شيء لم يتكلم فيه النبي (ص)وضللتم من لم يضلله النبي (ص).
الجواب الثاني أن يقال لهم : إن النبي (ص)لم يجهل شيئا مما ذكرتموه من الكلام في الجسم والعرض والحركة والسكون والجزء والطفرة وإن لم يتكلم في كل واحد من ذلك معينا , وكذلك الفقهاء والعلماء من الصحابة , غير أن هذه الأشياء التي ذكرتموها معينة أصولها موجودة في القرآن والسنة جملة غير مفصلة فأما الحركة والسكون والكلام فيهما فأصلهما موجود في القرآن وهما يدلان على التوحيد , وكذلك الاجتماع والافتراق قال الله تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم (ص) في قصة أفول الكوكب والشمس والقمر وتحريكها من مكان إلى مكان ما دل على أن ربه عز وجل لا يجوز عليه شيء من ذلك , وأن من جاز عليه الأفول والانتقال من مكان إلى مكان فليس بإله .
وأما الكلام في أصول التوحيد فمأخوذ أيضا من الكتاب قال الله تعالى {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وهذا الكلام موجز منبه على الحجة بأنه واحد لا شريك له , وكلام المتكلمين في الحجاج في التوحيد بالتمانع والتغالب فإنما مرجعه إلى هذه الآية , وقوله عز وجل : {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} وإلى قوله عز وجل : {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق} وكلام المتكلمين في الحجاج في توحيد الله إنما مرجعه إلى هذه الآيات التي ذكرناها , وكذلك سائر الكلام في تفصيل فروع التوحيد والعدل إنما هو مأخوذ من القرآن ,فكذلك الكلام في جواز البعث واستحالته الذي قد اختلف عقلاء العرب ومن قبلهم من غيرهم فيه حتى تعجبوا من جواز ذلك فقالوا : {أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} وقولهم: {هيهات هيهات لما توعدون} وقولهم {من يحيي العظام وهي رميم} وقوله تعالى {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون} وفي نحو هذا الكلام منهم إنما ورد بالحجاج في جواز البعث بعد الموت في القرآن تأكيدا لجواز ذلك في العقول , وعلم نبيه (ص)ولقنه الحجاج عليهم في إنكارهم البعث من وجهين على طائفتين : منهم طائفة أقرت بالخلق الأول وأنكرت الثاني , وطائفة أنكرت ذلك بقدم العالم , فاحتج على المقر منها بالخلق الأول بقوله {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} وبقوله {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} وبقوله {كما بدأكم تعودون} فنبههم بهذه الآيات على أن من قدر أن يفعل فعلا على غير مثال سابق فهو أقدر أن يفعل فعلا محدثا فهو أهون عليه فيما بينكم وتعارفكم وأما البارئ جل ثناؤه وتقدست أسماؤه فليس خلق شيء بأهون عليه من الآخر وقد قيل : إن الهاء في "عليه" إنما هي كناية للخلق بقدرته , إن البعث والإعادة أهون على أحدكم وأخف عليه من ابتداء خلقه , لأن ابتداء خلقه إنما يكون بالولادة والتربية وقطع السرة والقماط وخروج الأسنان وغير ذلك من الآيات الموجعة المؤلمة , وإعادته إنما تكون دفعة واحدة ليس فيها من ذلك شيء فهي أهون عليه من ابتدائه , فهذا ما احتج به على الطائفة المقرة بالخلق وأما الطائفة التي أنكرت الخلق الأول والثاني وقالت بقدم العالم فإنما دخلت عليهم شبهة بأن قالوا : "وجدنا الحياة رطبة حارة والموت باردا يابسا , وهو من طبع التراب , فكيف يجوز أن يجمع بين الحياة والتراب والعظام النخرة فيصير خلقا سويا , والضدان لا يجتمعان" فأنكروا البعث من هذه الجهة ولعمري إن الضدين لا يجتمعان في محل واحد , ولا في جهة واحدة ولا في الموجود في المحل , ولكنه يصح وجودهما في محلين على سبيل المجاورة , فاحتج الله تعالى عليهم بأن قال : {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون}فردهم الله - عز وجل - في ذلك إلى ما يعرفونه ويشاهدونه من خروج النار على حرها ويبسها من الشجر الأخضر على بردها ورطوبتها , فجعل جواز النشأة الأولى دليلا على جواز النشأة الآخرة , لأنها دليل على جواز مجاورة الحياة التراب والعظام النخرة فجعلها خلقا سويا , وقال : {كما بدأنا أول خلق نعيده}
وأما ما يتكلم به المتكلمون من أن للحوادث أولا وردهم على الدهرية أنه لا حركة إلا وقبلها حركة , ولا يوم إلا وقبله يوم , والكلام على من قال : ما من جزء إلا وله نصف لا إلى غاية , فقد وجدنا أصل ذلك في سنة رسول الله (ص)حين قال «لا عدوى ولا طيرة» فقال أعرابي : "فما بال الإبل كأنها الظباء تدخل في الإبل الجربى فتجرب ؟" فقال
النبي (ص)«فمن أعدى الأول؟» فسكت الأعرابي لما أفحمه بالحجة المعقولة .
وكذلك نقول لمن زعم أنه لا حركة إلا وقبلها حركة : "لو كان الأمر هكذا لم تحدث منها واحدة , لأن ما لا نهاية له لا حدث له" , وكذلك لما قال الرجل : "يا نبي الله إن امراتي ولدت غلاما أسود" وعرض بنفيه , فقال النبي (ص): «هل لك من إبل؟» فقال : "نعم!" قال: «فما ألوانها؟» قال: "حمر" فقال - رسول الله (ص)- : «هل فيها من أورق؟» قال : "نعم إن فيها أورق" قال: «فأنى ذلك؟» قال: "لعل عرقا نزعه" فقال النبي (ص): «ولعل ولدك نزعه عرق» فهذا ما علم الله نبيه من رد الشيء إلى شكله ونطيره وهو أصل لنا في سائر ما نحكم به من الشبيه والنظير .
وبذلك نحتج على من قال : "إن الله - تعالى وتقدس - يشبه المخلوقات وهو جسم , بأن نقول له : "لو كان يشبه شيئا من الأشياء لكان لا يخلوا من أن يكون يشبهه من كل جهاته أو يشبهه من بعض جهاته , فإن كان يشبهه من كل جهاته وجب أن يكون محدثا من كل جهاته وإن كان يشبهه من بعض جهاته وجب أن يكون محدثا مثله من حيث أشبهه , لأن كل مشتبهين حكمهما واحد فيما اشتبها به , ويستحيل أن يكون المحدث قديما والقديم محدثا وقد قال تعالى وتقدس {ليس كمثله شيء} وقال تعالى وتقدس {ولم يكن له كفوا أحد} .
وأما الأصل في أن للجسم نهاية وأن الجزء لا ينقسم فقوله عز وجل اسمه { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} ومحال إحصاء ما لا نهاية له , ومحال أن يكون الشيء الواحد ينقسم , لأن هذا يوجب أن يكون شيئين , وقد أخبر أن العدد وقع عليهما .
وأما الأصل في أن المحدث للعالم يحب أن يتأتى له الفعل نحو قصده واختياره , وتنتفي عنه كراهيته فقوله تعالى : {أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} فلم يستطيعوا أن يقولوا بحجة إنهم يخلقون مع تمنيهم الولد , فلا يكون مع كراهيته له , فنبههم أن الخالق هو من يتأتى منه المخلوقات على قصده ."
فى الفقرات السابقة أقوال خاطئة وهى :
الأول القول إن الضدين لا يجتمعان في محل واحد , ولا في جهة واحدة ولا في الموجود في المحل , ولكنه يصح وجودهما في محلين على سبيل المجاورة "
بالقطع الضدين يجتمعان فى المخلوق الواحد فالصلب والسائل واللين موجودون فى الكائن الحى كالإنسان والأنعام فالصلب العظام ومنها الأسنان ومنها اللين كالجلد ومنها السائل كالدم ومثلا السواد والبياض يجتمعان فى الحين فى الكثير من الناس وأجياناتجتمع البرودة والسخونى فى ذلك الجسم فتجد الوجه عند الجبهة بارد وتجد العضو الذكرى أو الأنثوى ساخن
وقد كرر الخطأ الأول فى القول " فاحتج الله تعالى عليهم بأن قال : {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون}فردهم الله - عز وجل - في ذلك إلى ما يعرفونه ويشاهدونه من خروج النار على حرها ويبسها من الشجر الأخضر على بردها ورطوبتها , فجعل جواز النشأة الأولى دليلا على جواز النشأة الآخرة , لأنها دليل على جواز مجاورة الحياة التراب والعظام النخرة فجعلها خلقا سويا" حيث قال بتجاور الضدين وعدم وجودهما فى محل واحد أو جهة واحدة
الثانى القول بأن تمنون تعنى التمنى النفسى وليس الإمناء الجسدى فى قوله:
"وأما الأصل في أن المحدث للعالم يحب أن يتأتى له الفعل نحو قصده واختياره , وتنتفي عنه كراهيته فقوله تعالى : {أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} فلم يستطيعوا أن يقولوا بحجة إنهم يخلقون مع تمنيهم الولد , فلا يكون مع كراهيته له , فنبههم أن الخالق هو من يتأتى منه المخلوقات على قصده"
فتمنون هنا تعنى المنى المخلوق وليس التمنى النفس فالناس لايقدرون على خلق المنى ولكتهم يقدرون على خلق تمنى الأشياء فى أنفسهم
ثم قال الأشعرى:
"وأما أصلنا في المناقضة على الخصم في النظر فمأخوذ من سنة سيدنا محمد (ص), وذلك تعليم الله عز وجل إياه حين لقي الحبر السمين فقال له : «نشدتك بالله هل تجد فيما أنزل الله تعالى من التوراة أن الله تعالى يبغض الحبر السمين؟» فغضب الحبر حين عيره بذلك فقال : "ما أنزل الله على بشر من شيء" فقال الله تعالى : {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا} الآية , فناقضه عن قرب , لأن التوراة شيء وموسى بشر , وقد كان الحبر مقرا بأن الله تعالى أنزل التوراة على موسى .
وكذلك ناقض الذين زعموا أن الله تعالى عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار , فقال تعالى : {قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين} فناقضهم بذلك وحاجهم .
أما أصلنا في استدراكنا مغالطة الخصوم فمأخوذ من قوله تعالى:{إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} إلى قوله: {لا يسمعون} فإنها لما نزلت هذه الآية بلغ ذلك عبد الله بن الزبعري - كان جدلا خصما - فقال: "خصمت محمدا ورب الكعبة" , فجاء إليه رسول الله (ص)فقال : "يا محمد ألست تزعم أن عيسى وعزيرا والملائكة عبدوا؟" فسكت النبي (ص)لا سكوت عي ولا منقطع تعجبا من جهله , لأنه ليس في الآية ما يوجب دخول عيسى وعزير والملائكة فيها , لأنه قال: {وما تعبدون} ولم يقل "كل ما تعبدون من دون الله" وإنما أراد ابن الزبعري مغالطة النبي (ص)ليوهم قومه أنه قد حاجه , فأنزل الله عز وجل: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} يعني من المعبودين {أولئك عنها مبعدون} فقرأ النبي (ص)ذلك , فضجوا عند ذلك لئلا يتبين انقطاعهم وغلطهم فقالوا: "أآلهتنا خير أم هو" يعنون عيسى , فأنزل الله تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون} إلى قوله: {خصمون} ."
بالقطع حكاية ابن الزبعرى لم تحدث وإن كانت حدثت عند أهل الحديث فهناك فهم خاطىء لقوله " إنكم وما تعبدون من دون الله " فالمراد بالمعبودين هو الظن وهو هوى ألأنفس كما قال تعالى " إن يتبعون إلا الظن وما تهوى النفس" فالمعبود وهو المطاع حقيقة ليس الصنم أو الميت كعيسى(ص) وعزير(ص)وإنما المطاع هو هوى النفس وهو الشهوة أى القرين لأن الصنم لا يتكلم حتى يطاع كلامه والميت لا يتكلم حتى يطاع كلامه والطاعة هى العبادة
وبين الأشعرى أن علم الكلام أصوله ماخوذة من ألايات والروايات فقال:
"وكل ما ذكرناه من الآي أو لم نذكره أصل وحجة لنا في الكلام فيما نذكره من تفصيل , وإن لم تكن كل مسألة معينة في الكتاب والسنة لأن ما حدث تعيينها من المسائل العقليات في أيام النبي (ص)والصحابة قد تكلموا فيه على نحو ما ذكرناه ."
ثم رد على حجج القوم الأخرى فقال:
"ووالجواب الثالث : أن هذه المسائل التي سألوا عنها قد علمها النبي (ص)ولم يجهل منها شيئا مفصلا , غير أنها لم تحدث في أيامه معينة فيتكلم فيها أو لم يتكلم فيها وإن كانت أصولها موجودة في القرآن والسنة وما حدث من شيء فيما له تعلق بالدين من جهة الشريعة فقد تكلموا فيه وبحثوا عنه وناظروا فيه وجادلوا وحاجوا كمسائل العول والجدات من مسائل الفرائض وغير ذلك من الأحكام , وكالحرام , والبائن , والبتة , و"حبلك على غاربك" , وكالمسائل في الحدود , والطلاق , مما يكثر ذكرها مما قد حدثت في أيامهم ولم يجئ في كل واحدة منها نص عن النبي (ص)لأنه لو نص على جميع ذلك ما اختلفوا فيها , وما بقي الخلاف إلى الآن وهذه المسائل وإن لم يكن في كل واحدة منها نص عن رسول الله (ص)فإنهم ردوها وقاسوها على ما فيه نص من كتاب الله تعالى والسنة واجتهادهم , فهذه أحكام حوادث الفروع ردوها إلى أحكام الشريعة التي هي فروع لا تدرك أحكامها إلا من جهة السمع والرسل فأما حوادث تحدث في الأصول في تعيين مسائل فينبغي لكل عاقل مسلم أن يرد حكمها إلى جملة الأصول المتفق عليها بالعقل والحس والبديهة وغير ذلك لأن حكم مسائل الشرع التي طريقها السمع أن تكون مردودة إلى أصول الشرع الذي طريقه السمع , وحكم مسائل العقليات والمحسوسات أن يرد كل شيء من ذلك إلى بابه , ولا يخلط العقليات بالسمعيات , ولا السمعيات بالعقليات , فلو حدث في عهد النبي (ص)الكلام في خلق القرآن , وفي الجزء والطفرة بهذه الألفاظ لتكلم فيه وبينه كما بين سائر ما حدث في أيامه من تعيين المسائل وتكلم فيها .
ثم يقال : "النبي (ص)لم يصح عنه حديث في أن القرآن غير مخلوق أو هو مخلوق , فلم قلتم : إنه غير مخلوق؟"فإن قالوا: "قد قاله بعض الصحابة وبعض التابعين" , قيل لهم : "يلزم الصحابي والتابعي مثل ما يلزمكم من أن يكون مبتدعا ضالا , إذ قال ما لم يقله الرسول (ص).
فإن قال قائل : "فأنا أتوقف في ذلك فلا أقول مخلوق ولا غير مخلوق" قيل له :"فأنت في توقفك في ذلك مبتدع ضال , لأن النبي (ص)لم يقل : "إن حدثت هذه الحادثة بعدي توقفوا فيها ولا تقولوا فيها شيئا" , ولا قال : "ضللوا وكفروا من قال بخلقه أو من قال بنفي خلقه" .
وخبرونا لو قال قائل: "إن علم الله مخلوق" أكنتم تتوقفون فيه أم لا ؟ فإن قالوا : "لا" قيل لهم : "لم يقل النبي (ص)ولا أصحابه في ذلك شيئا"
وكذلك لو قال قائل : "هذا ربكم شبعان , أو ريان , أو مكتس , أو عريان , أو مقرور , أو صفراوي , أو مرطوب , أو جسم , أو عرض , أو يشم الريح , أو لا يشمها , أو هل له أنف , وكبد , وطحال , وهل يحج في كل سنة ؟ وهل يركب الخيل أو لا يركبها وهل يغتم أم لا ؟" ونحو ذلك من المسائل لكان ينبغي أن تسكت عنه , لأن رسول الله (ص)لم يتكلم في شيء من ذلك ولا أصحابه , أو كنت لا تسكت , فكنت تبين بكلامك أن شيئا من ذلك لا يجوز على الله - عز وجل وتقدس - كذا وكذا , بحجة كذا وكذا فإن قال قائل : "أسكت عنه ولا أجيبه بشيئ أو أهجره , أو أقوم عنه , أو لا أسلم عليه , أو لا أعوده إذا مرض أو لا أشهد جنازته إذا مات" , قيل له:" فيلزمك أن تكون في جميع هذه الصيغ التي ذكرتها مبتدعا ضالا , لأن رسول الله (ص)لم يقل: "من سأل عن شيء من ذلك فاسكتوا عنه" , ولا قال : "لا تسلموا عليه" ولا "قوموا عنه" , ولا قال شيئا من ذلك فأنتم مبتدعة إذا فعلتم ذلك ولم لم تسكتوا عمن قال بخلق القرآن ولم كفرتموه ولم يرد عن النبي (ص)حديث صحيح في نفي خلقه وتكفير من قال بخلقه .
فإن قالوا: "لأن أحمد بن حنبل قال بنفي خلقه وتكفير من قال بخلقه" , قيل لهم : "ولم لم يسكت أحمد عن ذلك بل تكلم فيه؟"فإن قالوا : "لأن العباس العنبري , ووكيعا , وعبد الرحمن بن مهدي , وفلانا وفلانا قالوا : "إنه غير مخلوق , ومن قال بأنه مخلوق فهو كافر" , قيل لهم : "ولم لم يسكت أولئك عما سكت عنه (ص)؟ "فإن قالوا : "لأن عمر بن دينار , وسفيان بن عيينة , وجعفر بن محمد وفلانا وفلانا قالوا: ليس بخالق ولا مخلوق" , قيل لهم : "ولم لم يسكت أولئك عن هذه المقالة , ولم يقلها رسول الله (ص)؟فإن أحالوا ذلك على الصحابة أو جماعة منهم كان ذلك مكابرة , فإنه يقال لهم : "فلم لم يسكتوا عن ذلك ولم يتكلم فيه النبي (ص)ولا قال : كفروا قائله"وإن قالوا : "لا بد للعلماء من الكلام في الحادثة ليعلم الجاهل حكمها" , قيل لهم : "هذا الذي أردناه منكم , فلم منعتم الكلام ؟ فأنتم إن شئتم تكلمتم حتى إذا انقطعتم قلتم : نهينا عن الكلام , وإن شئتم قلدتم من كان قبلكم بلا حجة ولا بيان , وهذا شهوة وتحكم" ثم يقال لهم : "فالنبي (ص)لم يتكلم في النذور والوصايا , ولا في العتق , ولا في حساب المناسخات , ولا صنف فيها كتابا كما صنعه مالك , والثوري , والشافعي , وأبو حنيفة , فيلزمكم أن يكونوا مبتدعة وضلالا إذ فعلوا ما لم يفعله النبي (ص)وقالوا ما لم يقله نصا بعينه , وصنفوا ما لم يصنفه النبي (ص) وقالوا بتكفير القائلين بخلق القرآن ولم يقله النبي (ص). وفيما ذكرنا كفاية لكل عاقل عير معاند .ط
وحجج الأشعرى هنا كافية فمن ذموا الكلام وحرموه كما قلنا تكلموا فى المسائل المختلفة لبيان الحق من الباطل كما يعتقدون ومن ثم مارسوا علم الكلام وهم يدرون أو لا يدرون
بقيت كلمة وهى :
أن هناك مسائل لم يتحدث فيها النبى(ص)بحلال وحرام لأنها لم تقع فى عهده وهو كلام يقتنع به الذام والمادح للكلام ولكنه يخالف كتاب الله فهذه المقولة تعنى أن الرسول(ص)لم يبلغ الرسالة كاملة والرجل بلغها تامة كاملة فيها حكم كل مسألة حدثت أو ستحدث كما قال تعالى :
" ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء"
فوحى الله نزل فيه حكم كل شىء ولم يفرط الله فى أى مسالة صغرت أم كبرت كما قال :
" وما فرطنا فى الكتاب من شىء"