الإخلاص :
معنى الإخلاص:
هو تجريدُ قصد التقرّب إلى الله - عز وجل - عن جميع الشوائب. وقيل: هو إفراد الله - عز وجل - بالقصد في الطاعات. وقيل: نسيانُ رؤيةِ الخلْق بدوام النظر إلى الخالق- انظر: "البحر الرائق" [ص14]. [قلت]: قوله: "فقد كفَر ما علّمه الله"؛ أي كفر النعمة التي هي علمُه بالصنعة، وهو كفر أصغر غير مخرِجٍ من الملّة؛ لكنه عملٌ غير محبوبٍ لله تعالى
قد أمر الله - عز وجل - بالإخلاص فقال: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]
وقال تعالى: ﴿ أَلا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ﴾ [الزمر: 3]
وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾ [الكهف: 110]
وعن أبي أمامة -رضى الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: أرأيتَ رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا شيءَ له"، فأعادها ثلاثَ مرارٍ ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا شيءَ له"، ثم قال: "إنّ اللهَ لا يقبلُ من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتُغِيَ به وجهُه"- إسناده جيد] أخرجه النسائي في الجهاد [ح3140] من حديث أبي أمامة الباهلي - رضى الله عنه -. قال ابن رجب -في "جامع العلوم والحكم" [16]: "إسناده جيد". وقال المنذري -في "الترغيب والترهيب"-: "رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد"، كذا عزاه لأبي داود
وقال - صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثٌ لا يغلّ عليهن قلب امرئ مؤمن: إخلاصُ العمل لله، والمناصحةُ لأئمة المسلمين، ولزومُ جماعتهم"-حسن] أخرجه الترمذي في العلم [ح2658]، وابن ماجه في المقدمة [ح230] مختصرًا، والدارمي [1/86]، وأحمد [4/82] من طريق: عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، يحدث عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم-، فذكره
والمعنى أن هذه الثلاثة تستصلح بها القلوب فمن تخلق بها طهُرَ قلبُه من الخيانة والدغل والشر. ولا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص لقول الله - عز وجل - : ﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 40
ويُروى أن أحد الصالحين كان يقول لنفسه: أخلصي تتخلّصي.
وكل حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ويميل إليه القلب قلَّ أم كثُر إذا تطرّق إلى العمل تكدّر به صفوُه وزال به إخلاصُه، والإنسان مرتبطٌ في حظوظه منغمسٌ في شهواته.. قلّما ينفك فعل من أفعاله وعبادة من عباداته عن حظوظٍ وأغراض عاجلة من هذ الأجناس؛ فلذلك قيل: طُوبَى لمن صحّت له خطوة لم يُرد بها إلا وجهَ الله.
فالإخلاص تنقِيةُ القلب عن الشوائب كلّها قليلها وكثيرها ، حتى يتجرد فيها قصد التقرب فلا يكون فيه باعثٌ سواه، والشيطان قد يحاصر العبد ويُحبط له كل عمل، ولا يكاد يخلص له عمل واحد، وإذا خلُص عملٌ واحد فقد ينجو به العبد. قيل للإمام سهل: أي شيءٍ أشدّ على النفس؟ قال: الإخلاص؛ إذ ليس لها فيه نصيب.
فالنفس تحب الظهور والمدح والرياسة، وتميل إلى البَطالة والكسل، وزُيِّنَتْ لها الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، فأشدّ شيءٍ على النفس إخلاصُ النية لله - عز وجل -. قال أيّوب: تخليصُ النيّات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال.
وقال بعضهم: إخلاص ساعةٍ نجاةُ الأبد ولكنّ الإخلاصَ عزيز. فينبغي لمن أراد الإخلاص أن يقطع محبّة الشهوات من قلبه، ويملأ قلبه بحبّ الرب - جل وعلا - ويستغرق الهمّ بالآخرة، فمثل هذا لو أكل أو شرب أو قضى حاجته كان خالص العمل صحيح النيّة، ومن لم يكن كذلك فباب الإخلاص مسدود عليه إلا على النُّدور.
فالذي يغلِب على قلبه حبّ الله - عز وجل - وحب الآخرة تكتسب حركاتُه الاعتيادية صفةَ همّه وتصير إخلاصًا، والذي يغلب على نفسه الدنيا والعُلُوّ والرياسة فيها، وبالجملة غير الله، تكتسب جميعُ حركاته تلك الصفة فلا تسلم له عبادة من صومٍ وصلاة وغير ذلك إلا نادِرًا.
فإذن الإخلاص كسر حظوظ النفس وقطع الطمع عن الدنيا والتجرّد للآخرة، بحيث يغلب ذلك على القلب، فإذ ذاك يتيّسر الإخلاص، وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها ويظنّ أنها خالصةٌ لوجه الله ويكون فيها من المغرورين، كما حُكِي عن بعضهم أنه كان يصلّي دائمًا في الصفّ الأول فتأخر يومًا عن الصلاة فصلى في الصف الثاني، فاعترته خجلة من الناس حيث رأوه في الصف الثاني، فعلم أن مسرّته وراحة قلبه في الصلاة في الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه، وهذا دقيقٌ غامض قلّما تسلم الأعمال من أمثاله، وقلّ من ينتبهُ له إلا من وفَّقه الله تعالى.
والغافلون عن الإخلاص يرون حسناتهم يوم القيامة سيئات، وهم المقصودون بقوله تعالى: ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ﴾ الزمر: 47-48
وبقوله - عز وجل - : ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾ [الكهف: 104-105.
قال في "الإحياء": فقد ظهر بالأدلّة والعَيان أنه لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة؛ فالعمل بغير إخلاص رياء، وهو للنفاق كفاء ومع العصيان سواء، والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء، وقد قال الله تعالى -في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوبًا مغمورا-: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ﴾ الفرقان: 23- انظر: "البحر الرائق" ص14-17.