رجل الذكاء والدهاء :
كانوا ثلاثة في قريش، اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعنف مقاومتهم دعوته وإيذائهم أصحابه..
وراح الرسول يدعو عليهم، ويبتهل إلى ربه الكريم أن ينزل بهم عقابه....
كان رجل الذكاء والدهاء أحد هؤلاء الثلاثة..
ولقد اختار الله لهم طريق التوبة والرحمة وهداهم إلى الإسلام.
وتحول إلى مسلم مناضل. والى قائد من قادة الإسلام البواسل.
و دوره كصحابيّ جليل بذل وأعطى، وكافح، سيظل يفتح على محيّاه أعيننا وقلوبنا.
وهنا في مصر بالذات، سيظل الذين يرون الإسلام دينا قيما مجيدا, ويرون في رسوله رحمة مهداة، ، ورسول صدق عظيم، دعا إلى الله على بصيرة، وألهم الحياة كثيرا من رشدها وتقاها0
سيظل الذين يحملون هذا الإيمان مشحوذي الولاء للرجل الذي جعلته الأقدار سببا، وأي سبب، لإهداء الإسلام إلى مصر، وإهداء مصر إلى الإسلام.. فنعمت الهداية ونعم مهديها.
ذلكم هو: سيدنا عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه..
ولقد تعوّد المؤرخون أن ينعتوه بـفاتح مصر , لعل أحق النعوت بعمرو أن ندعوه بـمحرر مصر..
فالإسلام لم يكن يفتح البلاد بالمفهوم الحديث للفتح، إنما كان يحررها من تسلط إمبراطوريتين سامتا العباد والبلاد سوء العذاب، تانك هما:
إمبراطورية الفرس , وإمبراطورية الروم..
ومصر بالذات، يوم أهلت عليها طلائع الإسلام كانت نهبا للرومان وكان أهلها يقاومون دون جدوى.
ولما دوّت فوق مشارف بلادهم صيحات الكتائب المؤمنة يعلو هتافها : " الله أكبر..الله أكبر"..
سارعوا جميعا في زحام مجيد صوب الفجر الوافد وعانقوه، واجدين فيه خلاصهم من قيصر ومن الرومان..
فعمرو بن العاص ورجاله، لم يفتحوا مصر إذن فحسب , إنما فتحوا الطريق أمام مصر لتصل بالحق مصيرها.. وتربط بالعدل مقاديرها.. وتجد نفسها وحقيقتها في ضوء كلمات الله، ومبادئ الإسلام.
ولقد كان رضي الله عنه حريصا على أن يباعد أهل مصر وأقباطها عن المعركة، ليظل القتال محصورا بينه وبين جنود الرومان الذين يحتلون البلاد ويسرقون أرزاق أهلها.
من أجل ذلك نجده يتحدث إلى زعماء النصارى يومئذ وكبار أساقفتهم، فيقول"إن الله بعث محمدا بالحق وأمره به"
وإنه عليه الصلاة والسلام، قد أدّى رسالته، ومضى بعد أن تركنا على الواضحة أي الطريق الواضح المستقيم, وكان مما أمرنا به الاعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام , فمن أجابنا، فهو منا، له ما لنا وعليه ما علينا , ومن لم يجبنا إلى الإسلام، عرضنا عليه الجزية أي الضرائب وبذلنا له الحماية والمنعة, ولقد أخبرنا نبينا الصلاة والسلام أن مصر ستفتح علينا، وأوصانا بأهلها خيرا فقال الصلاة والسلام:" ستفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطهاخيرا، فان لهم ذمّة ورحما"..
فان أجبتمونا إلى ما ندعوكم إليه كانت لكم ذمة إلى ذمة"...
وفرغ عمرو من كلماته، فصاح بعض الأساقفة والرهبان قائلا:
" إن الرحم التي أوصاكم بها نبيّكم، لهي قرابة بعيدة، لا يصل مثلها إلا الأنبياء"..!!
وكانت هذه بداية طيبة للتفاهم المرجو بين عمرو أقباط مصر.. وان يكن قادة الرومان قد حاولوا العمل لاحباطها..
وعمرو بن العاص رضي الله عنه لم يكن من السابقين إلى الإسلام، فقد أسلم مع خالد بن الوليد قبيل فتح مكة بقليل
ومن العجب أن إسلامه بدأ على يد النجاشي بالحبشة وذلك أن النجاشي يعرف عمراً ويحترمه لتردده الكثير على الحبشة والهدايا الجزيلة التي كان يحملها للنجاشي، وفي زيارته الأخيرة لتلك البلاد جاء ذكر للرسول الذي يهتف بالتوحيد وبمكارم الأخلاق في جزيرة العرب0
وسأل النجاشي عمراً، كيف لم يؤمن به ويتبعه، وهو رسول من الله حقا..؟؟
وسأل عمرو النجاشي قائلا: " أهو كذلك؟؟"
فأجابه النجاشي: " نعم، فأطعني يا عمرو واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرنّ على من خالفه"..؟!
فركب عمرو البحر من فوره، عائدا إلى بلاده، ميمّما وجهه شطر المدينة ليسلم لله رب العالمين0
وفي الطريق المفضية إلى المدينة التقى بخالد بن الوليد قادما من مكة ساعيا إلى الرسول ليبايعه على الإسلام0
ولم يكد الرسول يراهما قادمين حتى تهلل وجهه وقال لأصحابه:
" لقد رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها"..
وتقدم خالد فبايع 0
ثم تقدم عمرو فقال ": إني أبايعك على أن يغفر الله لي ما تقدّم من ذنبي"..
فأجابه الرسول صلي الله عليه وسلم قائلا: " يا عمرو, بايع، فان الإسلام يجبّ ما كان قبله"..
وبايع عمرو رضي الله عنه ووضع دهاءه وشجاعته في خدمة الدين الجديد.
وعندما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى، كان عمرو واليا على عمان0
وفي خلافة عمر أبلى بلاءه المشهود في حروب الشام، ثم في تحرير مصر من حكم الرومان.
كان حب عمرو الإمارة، إلى حد ما، تعبيرا تلقائيا عن طبيعته الجياشة بالمواهب.
بل إن شكله الخارجي، وطريقته في المشي وفي الحديث، كانت توحي إلى أنه خلق للإمارة..!!
حتى لقد روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رآه ذات يوم مقبلا، فابتسم لمشيته وقال:
" ما ينبغي لأبي عبدالله أن يمشي على الأرض إلا أميرا"00!
والحق أن أبا عبدالله لم يبخس نفسه هذا الحق0
وحتى حين كانت الأحداث الخطيرة تجتاح المسلمين , كان عمرو يتعامل مع هذه الأحداث بأسلوب أمير، أمير معه من الذكاء والدهاء، والمقدرة ما يجعله واثقا بنفسه معتزا بتفوقه..!!
ولكن معه كذلك من الأمانة ما جعل عمر بن الخطاب وهو الصارم في اختيار ولاته، واليا على فلسطين والأردن، ثم على مصر طوال حياة أمير المؤمنين عمر...
حين علم أمير المؤمنين عمر أن عمرا قد جاوز في رخاء معيشته الحد الذي كان أمير المؤمنين يطلب من ولاته أن يقفوا عنده، ليظلوا دائما في مستوى، أو على الأقل قريبين من مستوى عامة الناس0
فلو علم الخليفة عن عمرو كثرة رخائه، لم يعزله، إنما أرسل إليه محمد بن مسلمة وأمره أن يقاسم عمرا جميع أمواله وأشيائه، فيبقي له نصفها ويحمل معه إلى بيت المال بالمدينة نصفها الآخر.
ولو قد علم أمير المؤمنين أن حب عمرو للإمارة، يحمله على التفريط في مسؤولياته، لما احتمل ضميره الرشيد إبقاءه في الولاية لحظة.
وكان عمرو رضي الله عنه حادّ الذكاء، قوي البديهة عميق الرؤية, حتى لقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، كلما رأى إنسانا عاجز الحيلة، صكّ كفيّه عجبا وقال:" سبحان الله, إن خالق هذا، وخالق عمرو بن العاص اله واحد!!
كما كان بالغ الجرأة مقداما
ولقد كان يمزج جرأته بدهائه في بعض المواطن، فيظن به الجبن أو الهلع, بيد أنها سعة الحيلة، كان عمرو يجيد استعمالها في حذق هائل ليخرج نفسه من المآزق المهلكة..!!
ولقد كان أمير المؤمنين عمر يعرف مواهبه هذه ويقدرها قدرها، من أجل ذلك عندما أرسله إلى الشام قبل مجيئه إلى مصر، قيل لأمير المؤمنين: إن على رأس جيوش الروم بالشام أرطبونا أي قائدا وأميرا من الشجعان الدهاة، فكان جواب عمر رضي الله عنه :
" لقد رمينا أرطبون الروم، بأرطبون العرب، فلننظر عمّ تنفرج الأمور"..!!
ولقد انفرجت عن غلبة ساحقة لأرطبون العرب، وداهيتهم الخطير عمرو ابن العاص، على أرطبون الروم الذي ترك جيشه للهزيمة وولى هاربا إلى مصر، التي سيلحقه بها عمرو بعد قليل، ليرفع فوق ربوعها الآمنة راية الإسلام.
وما أكثر المواقف التي تألق فيها ذكاء عمرو رضي الله عنه ودهاؤه.
وإذا أردنا أن نشهد صورة لدهائه، وحذق بديهته، ففي موقفه من قائد حصن بابليون أثناء حربه مع الرومان في مصر وفي رواية تاريخية أخرى أنها الواقعة التي سنذكرها وقعت في اليرموك مع أرطبون الروم0
إذ دعاه الأرطبون والقائد ليحادثه، وكان قد أعطى أمرا لبعض رجاله بإلقاء صخرة فوقه اثر انصرافه من الحصن، وأعدّ كل شيء ليكون قتل عمرو أمرا محتوما0000
ودخل عمرو على القائد، لا يريبه شيء، وانفض لقاؤهما، وبينما هو في الطريق إلى خارج الحصن، لمح فوق أسواره حركة مريبة حركت فيه حاسة الحذر بشدّة.
وعلى الفور تصرّف بشكل باهر.
وعاد إلى قائد الحصن في خطوات آمنة مطمئنة وئيدة ومشاعر متهللة واثقة، كأن لم يفرّعه شيء قط، ولم يثر شكوكه أمر!!
ودخل على القائد وقال له:
لقد بادرني خاطر أردت أن أطلعك عليه.. إن معي حيث يقيم أصحابي جماعة من أصحاب الرسول السابقين إلى الإسلام، لا يقطع أمير المؤمنين أمرا دون مشورتهم، ولا يرسل جيشا من جيوش الإسلام إلا جعلهم على رأس جنوده، وقد رأيت أن آتيك بهم، حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، ويكونوا من الأمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة0
وأدرك قائد الروم أن عمرا بسذاجة قد منحه فرصة العمر..!!
فليوافقه إذن على رأيه، حتى إذا عاد ومعه هذا العدد من زعماء المسلمين وخيرة رجالهم وقوادهم، أجهز عليهم جميعا، بدلا من أن يجهز على عمرو وحده!
وبطريقة غير منظورة أعطى أمرهم بإرجاء الخطة التي كانت معدّة لاغتيال عمرو0
ودّع عمرو بحفاوة، وصافحه بحرارة، وابتسم داهية العرب، وهو يغادر الحصن0
وفي الصباح عاد عمرو على رأس جيشه إلى الحصن، ممتطيا صهوة فرسه، التي راحت تقهقه في صهيل شامت وساخر.
أجل فهي الأخرى كانت تعرف من دهاء صاحبها الشيء الكثير..!!
وفي السنة الثالثة والأربعين من الهجرة أدركت الوفاة عمرو بن العاص بمصر، حيث كان واليا عليها, وأخذ يستعرض حياته في لحظات الرحيل فقال:
" كنت أول أمري كافرا.. وكنت أشد الناس على رسول الله، فلو مت يومئذ لوجبت لي النار, ثم بايعت رسول الله، فما كان في الناس أحد أحب إلي منه، ولا أجلّ في عيني منه, ولو سئلت أن أنعته ما استطعت، لأني لم أكن أقدر أن أملأ عيني منه إجلالا له.. فلو متّ يومئذ لرجوت أن أكون من أهل الجنة , ثم بليت بعد ذلك بالسلطان، وبأشياء لا أدري أهي لي أم عليّ"..
ثم رفع بصره إلى السماء في ضراعة، مناجيا ربه الرحيم العظيم قائلا:
" اللهم لا بريء فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر، وإلا تدركني رحمتك أكن من الهالكين"!!
وظل في ضراعاته، وابتهالاته حتى صعدت إلى الله روحه.
وكانت آخر كلماته لا اله إلا الله..
وتحت ثرى مصر، التي عرّفها عمرو طريق الإسلام، ثوى رفاته..
وفوق أرضها الصلبة، لا يزال مجلسه حيث كان يعلم، ويقضي ويحكم.. قائما عبر القرون تحت سقف مسجده العتيق جامع عمرو، أول مسجد في مصر يذكر فيه اسم الله الواحد الأحد، وأعلنت بين أرجائه ومن فوق منبره كلمات الله، ومبادئ الإسلام.
رضي الله تعالي عن سيدنا عمر بن العاص وأجزل لهذا الصحاب الجليل جزاء ما قدم للإسلام 0
وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد عبد الله ورسوله وعلي أهله وآله وأصحابه
التوقيع |
يا آل بيت رسـول الله حبكـم*فرض من الله في القرآن أنزله يكفيكم من عظيم الفخر أنكـم*من لم يصــل عليــكم لا صلاة له |