حمداً لله تعالى مشفوعاً بالتوحيد والتقديس
حمداً لله الذي خَصّ نبيَّه محمّداً وأهلَ بيته عليه وعليهم أفضل الصلوات والتسليم بالاجتباءِ والاصطفاء، والتطهيرِ والتكريم، وأمرَ بالصلاةِ عليه وعليهم كما أمرَ بالصلاةِ على إبراهيم وآلِ إبراهيم، وجعل معرفتَهم براءةً من النار، ومحبّتَهم جوازاً على الصراط
وولايتَهم أمْناً مِن العذابِ الأليم
والصلاة والسلام على سيدنا محمّدٍ النبيِّ الأُمّيِّ الذي هو على خُلُقٍ عظيم، وبالمؤمنين رؤوفٌ رحيم
وعلى ذريّتهِ وأهل بيته وعترته , الذين بذِكْرهم تُستدفَعُ نوازلُ البلاء والضرر، ويُستعاذُ من سوء القضاء وشرّالقَدَر، ويُستنزل بهم في المُحول نَوافعُ المطر، ويُستقضى بهم على غلَبات اليأس وجوامعِ الوَطَر, جَمالُ ذي الأرضِ كانوا في الحياةِ , وهُم بـعـد المـمـاتِ جـمالُ الكُتْـبِ والـسِّيَـرِ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المصحف ليس اسما لذات القرآن الكريم وإنما هو اسم للصحف التي كتب عليها القرآن، ولم يطلق اسم المصحف على القرآن المكتوب في الصحف إلا بعد جمع القرآن الكريم في عهد الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في صحف ضم بعضها إلى بعض، فسميت مصحفا. تحدث علماؤنا -رحمهم الله- في كتاب الفقه عن حكم بيع المصحف، ولم يقل أحد منهم ببيع القرآن, فالقرآن كلام الله تعالى أما كتابة الآيات القرآنية وطباعتها في الصحف وتسجيل تلاوتها على الأشرطة والأقراص، فعمل البشر وجهدهم الذي يبتغون بها كسب رزق حلال
ومن فروق القرآن والمصحف بالمعنى الذي ذكرنا أن لفظ القرآن لا يجمع؛ لأن القرآن واحد لا يختلف في كل المصاحف, أما المصحف فيصح جمعه فيقال: "مصاحف" لأن كل واحد منها أو مجموعة منها تختلف عن الأخرى في الحجم ونوعية الخط, واللون إذا كانت مكتوبة, و من قارئ إلى أخر ونوعية التلاوة إذا كانت مسموعا مرتلا
هذا ولا ينسب القرآن إلا شخص, فلا يقال: "قرآن عثمان أو قرآن على أو قرآن أبي بن كعب". ولكن يقال:ومصحف عبدالله بن مسعود؛ لأن هذه المصاحف من عملهم دون القرآن
وبعد الانتهاء من التعريف اللغوي والاصطلاحي لكل جزء من تركيب (علوم القرآن) نصل إلى التعريف الاصطلاحي له كعلم مستقل
التعريف الاصطلاحي لعلوم القرآن
يختلف تعريف علوم القرآن بالنظر إلى معناه الإضافي, من تعريفه كفن مدون من علوم الشريعة أو بالمعنى الاصطلاحي المتأخر
علوم القرآن بمعناه الإضافي فيه توسع حيث يشمل العلوم المساندة والخادمة للقرآن الكريم، ولا يشترط فيه أن يكون القرآن الكريم محورها وموضوعها
علوم القرآن بالمعنى الإضافي تشمل كل ما يتصل بالقرآن الكريم، فالتفسير - مثلا- يصدق عليه أنه من علوم القرآن، وكذلك علم القراءات، وعلم رسم الصحف، وإعراب القرآن كلها يصدق عليها أنها من علوم القرآن
أما بعد أن صار هذا العلم ذا موضوع خاص أي تحول إلى فن مدون المعبر عنه بالمعنى اللقبي فإنه أصبح أضيق نطاقا وأكثر تخصيصا فلم يعد يشمل التفسير والإعراب ومسائل القراءات بالتوسع والشمول, بل إن بحثت هذه الأمور في ضمن مباحث علوم القرآن ستبحث موجزة و بالنظر إلى حيثيات خاصة
والذين توسعوا في العلوم المستنبطة من القرآن الكريم مثل الإمام السيوطي وغيره قصدوا بعلوم القرآن كل علم يخدم القرآن الكريم أو يستند إليه. ولو نراعي هذا الشمول والإحاطة يندرج كل من علم التفسير, وغريب القرآن, والقراءات، ورسم الصحف, والإعجاز, والعقيدة، واللغة وغيرها تحت مسمى علوم القرآن
أدخل السيوطي - رحمه الله- في العلوم المستنبطة من القرآن علوما كثيرة منها: الطب والهندسة, والجبر, والهيئة إضافة إلى أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها
وذكر الإمام الغزالي أن القرآن يحتوي "سبعة وسبعين ألف ومأتى علم"
وذكر ابن العربي عمن ركب من الاعتبار الآنف الذكر كلاما فقالوا: " إن علوم القرآن خمسون علما, وأربعمائة علم، وسبعة آلاف وسبعون ألف علم, على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة , إذ لكل كلمة فيها ظاهر وباطن, وحد مطلع"
ولا شك أن مرد هذا التوسع في مفهوم علوم القرآن بمعناه الإضافي لدى المتقدمين من أهل العلم، هو عظمة القرآن الكريم وما فيه من علوم و حكم. ولذلك قال الحرالي: (ت 623ه) إن "أكمل العلماء من وهبه الله تعالى فهما في كلامه ووعيا عن كتابه وتبصرة في الفرقان, وإحاطة بما شاء من علوم القرآن. ففيه تمام شهود ما كتب الله لمخلوقاته من ذكره الحكيم, بما يزيل بكريم عنايته من خطأ اللاعبين إذ فيه كل العلوم "
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة, وجميع السنة شرح للقرآن, وجميع القرآن شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العليا. وكما أنه أفضل من كل كلام سواه فعلومه أفضل من كل علم عداه"
ونص الزركشي (ت 794ه) أن " كل علم من العلوم متنزع من القرآن وإلا فليس برهان"
ونقل عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: "من أراد العلم فليُثوّر القرآن فإنه فيه علم الأولين والآخرين" وبالرغم من أن الزركشي -رحمه الله- وهو من أكبر المؤلفين في علوم القرآن، لم يقدم تعريفا لعلوم القرآن ولكنه كان يرى أن "علوم القرآن لا تنحصر, ومعانيه لا تستقصى". مما يدل على أن صاحب البرهان لم يكن ممن يحبذون حصر علوم القرآن في مباحث محدودة
وأما تعريف علوم القرآن كفن مدون فقد تعددت عبارات العلماء فيه
قال الشيخ الزرقاني في تعريف علوم القرآن: " مباحث تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله, وترتيبه, وجمعه, وكتابته, وقراءته, وتفسيره, وإعجازه, وناسخه ومنسوخه, ودفع الشبه عنه, ونحو ذلك"
وأما أستاذنا الشيخ مناع القطان -رحمه الله- فقد عرف علوم القرآن بقوله: "العلم الذي يتناول الأبحاث المتعلقة بالقرآن من حيث معرفة أسباب النزول, وجمع القرآن وترتيبه, ومعرفة المكي والمدني, والناسخ والمنسوخ, والمحكم و التشابه, إلى غير ذلك مما له صلة بالقرآن"
ويقول الدكتور فهد الرومي في تعريف علوم القرآن كفن مدون: "مباحث تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله وجمعه وقراءاته وتفسيره وناسخه ومنسوخه وأسباب نزوله ومكية ومدنيه ونحو ذلك"
وفي محاولة لتضيف علوم القرآن يري أحد المعاصرين وهو الدكتور فاروق حمادة أنه يمكن حصر علوم القرآن في شعبتين
الأولى: تاريخ القرآن الكريم ويندرج تحت ذلك نزول القرآن الكريم, وأسباب نزوله, وناسخه ومنسوخه, وتدوينه, وحفاظه, وقراءاته
الثانية: الوسيلة الصحيحة لفهمه على الوجه الحق, وينضوي تحت ذلك علوم اللغة, والإعجاز, والمحكم والمتشابه, والغريب وما إلى ذلك
كما تقضي هذا معرفة شيئ من تاريخ أدب العرب وحالتهم الاجتماعية عند نزول القرآن الكريم, لأنه أنزل بلسان عربي مبين في أمة كان لها أعراف وتقاليد وكان للقرآن مواقف حيالها
وفيما ذهب إليه الدكتور حمادة من تصنيف لعلوم القرآن نظر لأن المباحث المندرجة تحت الشعبة الأولى مثل أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وحتى القراءات لها صلة قوية جدا بالفهم الصحيح للقرآن الكريم، بل لا يمكن فهم بعض الآيات فهما سليما إلا بالوقوف على تلك المباحث. وبالتالي يمكن إدراجها تحت الشعبة الثانية التي عبر عنها بالوسائل الصحيحة لفهم القرآن الأمر الذي يفقد التقسيم المذكور قيمته
وفيما يبدو لي أنه أحدث محاولة لترتيب موضوعات علوم القرآن قام الدكتور مساعد الطيار بتقسيم وتصنيف علوم القرآن إلى عشرة أصناف؛ يندرج تحت كل صنف منها عدة موضوعات وهي
1)) علم نزول القرآن
2)) علم جمع القرآن
3)) علم القراءات
4)) علم معاني القرآن
5)) علم التفسير
6)) علم سور القرآن وآياته
7)) علم فضائل القرآن
8)) علم أحكام القرآن ووجوه الاستنباطات
9)) علم الوقف والابتداء
10)) علم جدل القرآن
وفي حين أدرج الدكتور مساعد الطيار التفسير ضمن مباحث علوم القرآن ونص على أنه "جزء من علم علوم القرآن". يري باحث معاصر آخر وهو الدكتور عدنان زرزور أن عد التفسير من علوم القرآن وجعله نوعا كبقية الأنواع مسألة فيها نظر وتجوز , لأن أغلب علوم القرآن إنما أريد منها تيسر شرح القرآن وفهمه
مناقشة التعريفات ونقدها
ولعل مما يلفت النظر بعد هذا العرض لتعريف علوم القرآن بمعناه الاصطلاحي وكفن مدون أن ثمة إشكاليه في تقديم حدّ جامع ومانع لهذا الفن وتحديد موضوعاته
ولعل صعوبة وضع تعريف جامع ومانع لعلوم القرآن هو السبب في غياب التعريف الاصطلاحي لعلوم القرآن من كتب المؤلفين المتقدمين في علوم القرآن بوصفه الاصطلاحي اللقبي، مثل: كتاب "فنون الفنان في عيون علوم القرآن" للإمام أبي الفرح بن الجوزي (ت 597ﻫ) و "المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز" للإمام أبي شامة المقدسي (ت 665 ﻫ) و "البرهان في علوم القرآن" للإمام أبي عبدالله الزركشى (ت 794 ﻫ) و "الإتقان في علوم القرآن" للإمام السيوطى (ت 911ﻫ ) وكذلك غياب هذا التعريف من بعض كتب علوم القرآن المعاصرة مثل: "مباحث في علوم القرآن" للدكتور صبحي صالح، "دروس في علوم القرآن" للأستاذ غانم قدوري حمد. و " إتقان البرهان في علوم القرآن" الدكتور فضل حسن عباس وكتاب "علوم القرآن" - باللغة الأردية- للشيخ محمد تقي عثماني و "علوم القران" (Quranic Sciences) باللغة الإنجليزية للدكتور عبد الرحمن داي و "علوم القرآن" باللغة الإنجليزية (Ulum Al-Quran) للأستاذ أحمد د ينفر
وجدير بالإشارة هنا أن جميع التعريفات المذكورة لعلوم القرآن بوصفه اللقبي آي كونه عَلما على المباحث الكلية الجامعة المتعلقة بالقرآن الكريم -على حدّ علمي و اطلاعي- للعلماء المتأخرين بل المعاصرين
والذي يتبين لي بعد تأمل وسبر للمسألة أن جذور إشكالية التعريف و تحديد الموضوعات في علوم القرآن تعود إلى افتقادنا لخط فاصل يجب أن يكون الأساس والمعيار لتحديد ما يمكن أن يدرج تحت مصطلح علوم القرآن، ومن ثم إبعاد الموضوعات التي لا يمكن أن تنضوي تحت هذا المصطلح
فما ذكره أصحاب التعريفات الآنفة الذكر كأصل كلي لجمع موضوعات علوم القرآن وعبروا عنها بعبارات مثل: " مباحث تتعلق بالقرآن الكريم " كما عند الشيخ الزرقاني و الدكتور فهد الرومي, و "الأبحاث المتعلقة بالقرآن" كما عند شيخنا مناع القطان, رغم كونها قريبة المبنى والمعنى، لا تكفي لوحدها أن تكون أساسا لبناء تعريف دقيق للعلم. فهي -أعنى عبارة "المباحث المتعلقة بالقرآن" و "الأبحاث المتعلقة بالقرآن"- عبارة عامة تنطبق على أخص موضوعات علوم القرآن وأدقها، مثل: الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول والمكي والمدني -على سبيل المثال- كما أنها قابلة للانطباق على موضوعات أخرى أستبعد كونها من مباحث علوم القرآن كفن مدون، بالرغم أنها موضوعات متصلة بالقرآن وتتعلق بها، مثل: دقائق علم اللغة وبعض التفريعات المتعلقة بإعجاز القرآن عموما ومنها الإعجاز العلمي
وثمة إشكال آخر مهم في هذه التعاريف وهو كونها ذا طابع وصفي، بمعنى أنها تصف بعض موضوعات علوم القرآن بحيث يمكن القول آن التعاريف المذكورة تذكر بعض الموضوعات التي تدرس في نطاق علم اسمه "علوم القرآن" بدل أن تعطي تعريفا للعلم نفسه والذي يتناول تلك الموضوعات بالدراسة والبحث, فموضوعات أي علم شيء والعلم الذي يشتمل على تلك الموضوعات ويوفر إطارا ومنهجا لدراستها شيء آخر، كما هو معروف
وقد نتج عن الإشكالات الموجودة في التعريف - كما يبدو لي- مشكلات أخرى، منها: منها كثرة التشقيقات في موضوعات علوم القرآن حيث يكمن إدخال مجموعة من هذه العلوم تحت مسمى واحد الأمر الذي يطرح ضرورة تحرير الموضوعات المعدودة ضمن علوم القرآن, وإعادة النظر في صياغتها. ومنها إشكالية دخول أو عدم دخول علم التفسير ضمن علوم القرآن كفن مدون. فكما رأينا آنفا أن ذلك مثار أخذ ورد بين الباحثين
ومن الإشكاليات التي لها صلة بإشكالية التعريف تسمية علوم القرآن بأصول التفسير عند بعض أهل العلم كشيخنا مناع القطان -رحمه الله- حيث قال: "وقد يسمى هذا العلم بأصول التفسير, لأنه يتناول المباحث التي لابد للمفسر من معرفتها للإستاد إليها في تفسير القرآن". والدكتور فهد الرومي الذي قال: "ويسمى هذا العلم بأصول التفسير لأنه يتناول العلوم التي يشترط على المفسر معرفتها والعلم بها"
وفي الطرف المقابل يري باحثون آخرون أن "أصول التفسير جزء من علوم القرآن". وبالرغم أن أصول التفسير تشارك علوم القرآن في استنادها للقرآن وخدمتها له, لكنهما يفترقان في كون علوم القرآن أعم, لكونها تضم مباحث لا دخل لها في التفسير كرسم القرآن, وعدد آياته". ولا تعنى المشاركة بين العلمين في خدمة القرآن في مجال واحد كونهما علما واحد؛ لأن "علم أصول التفسير علم يقوم على ضبط التفسير, ووضع قواعد مهمة ضرورية لسلامة السير في طريق هذا العلم, و اشتراط شروط للمفسر يعمل على تحقيقها قبل البدء في التفسير. وذلك كله لكيلا يكون هناك غلط في تفسير القرآن, أو تحريف لكلام الله, أو تشويه لمعناه". ومن هنا كان اعتبار علم أصول التفسير فرعا من فروع علوم القرآن إلى الدقة اقرب
وبالنظر إلى عدم دقة التعاريف المقدمة لعلوم القرآن كفن مدون و الإشكاليات الناتجة عنه, وبعد التأمل في ماهية علوم القرآن وموضوعاتها أري - والله أعلم- أن ثنائية تعريف علوم القرآن عند الباحثين المعاصرين- أعنى تقسيم علوم القرآن إلى المعنى الإضافي و إلى فن مدون- ومن ثم البحث عن تعريف لهذا الثاني هي جوهر المشكلة. فهذا التقسيم الثنائي عجز عن تحديد دقيق لموضوعات علوم القرآن ومنع التداخل بينها ووضع خطوط فاصلة بين ما هو من علوم القرآن وما هو ليس منها . أضف إلي ذلك أن كون التدوين والتأليف وتناول عناصر معينة في الكتب حسب اجتهادات فردية ورؤية مختلفة لكل مؤلف في تناول موضوعات وعدم تناول أخري- مثلما هو الشأن في كتب علوم القرآن- ليس مبررا كافيا ومقنعا لهذا التفريع الثنائي. و للخروج من هذه الإشكالية إما يبحث عن تعريف جامع ومانع لعلوم القرآن كفن مدون، أو نعود إلى اختيار تبني مفهوم علوم القرآن بالمعنى الإضافي وتقديم تعريف مناسب له بحيث يشمل جميع العلوم المساندة والخادمة للقرآن الكريم. ولا شك أن هذا هو الأقرب إلى مفهوم علوم القرآن لدي العلماء والأئمة المتقدمين ورؤيتهم لموضوعات العلم بشمولية وتوسع أكبر، مثل: ابن الجوزي والزركشي والسيوطي- رحمهم الله جمعيا- وقبلهم الإمام الجليل محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله وبعده الإمام الحرالي ومن سلك مسلكهم
وأرى أن النظر إلى علوم القرآن بهذه النظرة الشمولية -خاصة لو نأخذ في عين الاعتبار تقارب وتداخل العلوم الشرعية- كان من أكبر الأسباب في توسع دائرة علوم القرآن وتطورها عبر العصور وإضافة موضوعات ومباحث جديدة إليها, وهو أقدر إلى إتاحة مجالات أكبر وأوسع للبحث في العلوم المستنبطة من القرآن. وكذلك العلوم المساندة والخادمة له في عصرنا نحن وفي العصور اللاحقة بإذن الله تعالى. وأظن أن هذه الرؤية وهي رؤية سلف الأمة وعلمائها المتقدمين في أزهى عصور الحضارة الإسلامية هي أقدر لتنشيط علوم القرآن وإثراء مادته، وإبطال النظرة التي ترى علوم القرآن مثل كثير من العلوم قوالب جامدة احترقت مادتها وتفتقر للجدة ولا مجال للإضافة و الاجتهاد فيها
وبناء على ما ذكر نحاول تقديم تعريف لعلم "علوم القرآن" نرجو أن يكون دقيقا وخاليا من مآخذ التعاريف السابقة، فنقول في تعريف علوم القرآن
"علم يدرس الموضوعات المتعلقة بالقرآن الكريم سواء أكانت خادمة له أم معينة على فهمه"
شرح التعريف
نريد بـ"العلم" أن علوم القرآن علم مستقل ذو تعريف وموضوعات خاصة تميزها عن بقية العلوم. وجملة "الموضوعات المتعلقة بالقرآن الكريم" تشير إلى خصوصية المسائل المدروسة في هذا العلم، وهي المباحث المتصلة بالقرآن الكريم، وبها تخرج المسائل التي لا علاقة لها بالقرآن الكريم من نطاق علم علوم القرآن. وعبارة "سواء أكانت خادمة له أم معينة على فهمه" بمثابة وصف أو قيد لطبيعة الموضوعات المتصلة بالقرآن والتي تدرس في علم علوم القرآن, وهي موضوعات معينة وليست كل موضوع يمكن أن يتصل بالقرآن، ولكن فقط الموضوعات التي تخدم القرآن الكريم في جانب معين أو يساعد على فهمه. وأما الموضوعات الخادمة للقرآن فمثل: جمع القرآن، ورسم المصحف, وفضائل القرآن, وأحوال نزول القرآن مثل أول ما نزل وآخر ما نزل والحضري والسفري والصيفي والشتائي الليلي والنهاري وغيرها, أو الأحرف السبعة, وكيفية انزال القرآن (الوحي), وعلم طبقات القراء, وآداب القراءة, وتجويد القرآن, وعلم إعجاز القرآن, وتاريخ التفسير, وطبقات المفسرين, ومناهج المفسرين وأمثالها. هذه المباحث تخدم القرآن الكريم في مختلف الجوانب، ولكن لا اتصال لها مباشرة بفهم القرآن
وأما الصنف الثاني من موضوعات علوم القرآن، فهي التي تساعد في فهم القرآن مثل: أسباب النزول, والمكي والمدني, والقراءات وتوجيهها, وغريب ألفاظ القرآن, وإعراب القرآن, ومشكل القرآن, ومعرفة المحكم والمتشابه، والتفسير بأنواعه التحليلي والموضوعي والمقارن والإجمالي وأصول التفسير وقواعده, وعلم الناسخ والمنسوخ, والخاص والعام, والمطلق والمقيد, والمجمل والمبين, والوجوه والنظائر, وأقسام القرآن وأمثاله, وعلم المناسبات وما إلى ذلك
وخلاصة القول: أن موضوعات علوم القرآن بناء على هذا التعريف وحسب ما هو موجود في أمهات كتب علوم القرآن والتفسير منحصرة فقط في تلك التي تخدم القرآن، إما في الحفاظ عليه وسلامته من التحريف الفظي سواء في النطق أو الكتابة وضبط نصوصه وترتيب سوره وآياته أو بيان تاريخه, ومنازل أحوال نزوله وإعجازه ودفع الشبهات عنه, وتاريخ تفسيره ومناهج المفسرين واتجاهاته. أو تلك التي تعين على فهم نصوص القرآن فهما سليما خاليا عن التعسف والتكلف والتحريف المعنوي, واستنباط الأحكام والحكم منه، وفق ضوابط وأصول محكمة متقنة تحافظ على قدسية النص القرآني وتمنع عبث العابثين ويكشف تحريف الغالين وإبطال المبطلين، ليبقى كما أراد الله تبارك وتعالى له محفوظا صافيا نقيا يرشد الناس إلى الصراط المستقيم والنور المبين إلى يوم القيامة لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
وبهذا الشرح للتعريف ينضبط دائرة موضوعات علوم القرآن ويسد باب الإفراط والتفريط في التوسيع والتضييق بإذن الله تعالى
سبب تسمية هذا العلم بصيغة الجمع (علوم القرآن)
ولعل القارئ يتساءل: لماذا جاءت تسمية هذا العلم بصيغة الجمع (علوم) فقيل: (علوم القرآن)، ولم تأت بصيغة الإفراد (علم) كعلم الفقة, وعلم النحو وعلم البلاغة؟ ويجاب على هذا التساؤل بأن قبل تدوين هذه العلم بمعناه الاصطلاحي الذي استقر عليه الأمر كان العلماء رحمهم الله يؤلف كل منهم في موضوع من الموضوعات المتصلة بالقرآن الكريم، فيكتب بعضهم في الناسخ والمنسوخ و يكتب آخر في إعجاز القرآن والثالث في أسباب النزول والرابع في القراءات وهكذا. ثم اختصرت هذه الموضوعات وضم بعضها إلى بعض في كتب مستقلة فسميت" علوم القرآن"
وقال الشيخ الزرقانى: "وإنما سمي هذا العلم (علوم القرآن) بالجمع دون الإفراد للإشارة إلى أنه خلاصة علوم متنوعة, باعتبار أن مباحثه المدونة يتصل اتصالا وثيقا بالعلوم الدينية والعلوم الشرعية..." قلت: ولا غرابة في هذه التسمية فثمة علوم أخرى سميت بصيغة الجمع، مثل علوم الحديث, وعلوم الاتصالات وعلوم الإدارة وغيرها.
موضوع علوم القرآن
هو القرآن الكريم من أية ناحية من النواحي المذكورة قي التعريف
ثمرة علوم القرآن
1)) تيسير تفسير القرآن الكريم؛ لأن طائفة من علوم القرآن مفتاح باب التفسير، ولا يصح لأحد الخوض في تفسير القرآن المجيد قبل تعلم هذه الطائفة من علوم القرآن
2)) المحافظة على القرآن الكريم من التحريف في اللفظ و المعنى, وتيسير نقله من جيل إلى جيل, وتسهيل تعلمه وتلاوته بصورة صحيحة سليمة
3)) بيان إعجاز القرآن الكريم والكشف عن مكامن أسرار هذا الكتاب الجليل، لرفع الطاقة البشرية في كل عصر.
4)) معرفة جهود الأمة الإسلامية سلفا وخلفا في دراسة القرآن الكريم وخدمته و العناية بعلوم.
5)) "التسلح بمجموعة من المعارف القيمة التي يمكن من الدفاع عن هذا الكتاب العزيز ضد من يتعرض له من أعداء الإسلام ويبث الشكوك والشبهات في عقائده وأحكامه وتعاليمه"
6)) اكتشاف آفاق جديدة للبحث العلمي في أنواع العلوم والمعارف المتصلة بالقرآن الكريم، وهذا يشمل كل فرع للعلم والمعرفة يخدم كتاب الله سبحانه وتعالى أو يستند إليه
7)) إثراء الثقافة القرآنية والمعارف الشرعية بشكل عام
أبرز وأهم مباحث علم علوم القرآن
لا نريد من سرد موضوعات علم علوم القرآن هنا الحصر و الاستقصاء، إنما المراد هو ذكر أبرز وأهم مباحث هذا العلم الشريف حسب التعريف المذكور لعلوم القرآن، و الذي يشمل العلوم الخادمة للقرآن الكريم والمعينة على فهمه على حد سواء
وقد دأب كثير من الذين كتبوا في علوم القرآن ذكر مباحث هذا العلم بصورة مبعثرة ودون ترتيب وتنظيم، ولتفادى هذا النقص سنحاول تصنيف موضوعات علوم القرآن تحت عناوين رئيسية تندرج تحت كل منها مباحث متصلة وقريبة ببعضها بحيث يجمعها جامع أو رابط. وعلى أمل أن يساعد هذا الترتيب والتصنيف في تقريب الموضوعات إلى الدارسين وفهمهم لطبيعة علوم القرآن
أولا: علم نزول القرآن، وينضوي تحت هذا العلم المباحث التالية
1. أحوال نزول القرآن الكريم على النبي-صلى الله عليه وسلم- ويشمل: أول ما نزل وآخر ما نزل, والحضري والسفري, والصيفي والشتائي, والليلي والنهاري, والفراشي والمنامي, وغير ذلك من المسائل المرتبطة بأحوال نزول القرآن
2. أسباب نزول الآيات
3. المكي والمدني
4. كيفية إنزال الوحي
5. الأحرف السبعة واللغات التي نزل بها القرآن
ثانيا: علم جمع القرآن، ويندرج تحت هذا العلم
1. كيفية كتابة القرآن في عصر رسول الله صلى الله عيه وسلم
2. حفظ القرآن الكريم في الصدور في عصر النبوة
3. تدوين المصحف
4. تاريخ المصحف
5. رسم المصحف
6. كتابة المصاحف عبر العصور
7. طباعة المصحف
8. تسجيل تلاوة القرآن الكريم على الأشرطة الصوتية والأقراص
ثالثا: علم القراءات، ويشتمل هذا العلم على
1)) أنواع القراءات القرآنية
2)) تاريخ علم القراءات
3)) توجيه القراءات
4)) طبقات القراء
5)) آداب قراءة القرآن الكريم
6)) تجويد القرآن الكريم
رابعا: علم التفسير وأصوله، ويندرج تحت هذا العلم
1) أصول تفسير القرآن الكريم
2)) قواعد التفسير
3)) تاريخ التفسير
4)) طبقات المفسرين
5)) الناسخ والمنسوخ
6)) العام والخاص
7)) المطلق والمقيد
8)) المجمل والمبين
9)) المحكم والمتشابه
10)) مبهمات القرآ
11)) الوجوه والنظائر
12)) أقسام القرآن.
13)) أمثال القرآن
14)) أسباب الاختلاف في التفسير
15)) مناهج المفسرين
16)) اتجاهات التفسير
17)) أنواع التفسير باعتبارات مختلفة
18)) ترجمة معاني القرآن الكريم
19)) شروط المفسر وآداب التفسير
خامسا: علم معاني القرآن، ويندرج تحته
1)) غريب القرآن
2)) مشكل القرآن
3)) إعراب القرآن
4)) بلاغة القرآن
سادسا: إعجاز القرآن الكريم، ويشمل علم إعجاز القرآن المباحث التالية
1)) تاريخ علم إعجاز القرآن
2)) الإعجاز البياني للقرآن
3)) الإعجاز العلمي للقرآن
4)) الإعجاز التشريعي للقرآن
5)) الإعجاز الأخلاقي للقرآن
سابعا:علم سور القرآن و آياته، و يدخل ضمنه:
1)) معرفة أسماء السور
2)) ترتيب السور
3. المناسبات في القرآن
4. فواصل الآي
5)) عد الآي
6)) الوقف والابتداء
7)) فضائل السور والآيات
ثامنا: علم الدفاع عن القرآن الكريم ورد الشبهات والمطاعن: تكتسب برأيي المباحث المتعلقة بالدفاع عن القرآن الكريم ورد الشبهات والمطاعن المثارة حوله أهمية كبيرة في العصر الحاضر. وذالك بسبب كثرة السهام المسمومة الموجهة إلى القرآن الكريم من قبل أعداء الإسلام من الكفار المعاندين، مثل المستشرقين ومن حذا حذوهم وتربي على مناهجهم وأفكارهم من المنتسبين إلى الإسلام، الأمر الذي تقتضي اعتبار المباحث المتعلقة بالدفاع عن القرآن الكريم ورد الشبهات والمطاعن فرعا مستقلا من فروع علوم القرآن
ويمكن إدراج المباحث التالية تحت هذا الفرع
1)) تاريخ إثارة الشبهات حول القرآن الكريم
2)) الشبهات المثارة من قبل المشركين والكفار المعاصرين لنزول الوحي حول القرآن والرد عليها
3)) شبهات المستشرقين والمنصرين حول القرآن الكريم والرد عليها
4)) شبهات الحداثيين والعلمانيين حول القرآن الكريم والرد عليها
هذه أبرز وأهم مباحث علم (علوم القرآن) ولا شك أن ثمة ترابط وتداخل بين مباحث علوم القرآن، بحيث يجعل من الممكن تصنيف علم أو مبحث واحد في موضعين أو مجموعتين لارتباطه بهما