من سورة المائدة
حمداً لله تعالى مشفوعاً بالتوحيد والتقديس0
حمداً لله الذي خَصّ نبيَّه محمّداً وأهلَ بيته عليه وعليهم أفضل الصلوات والتسليم بالاجتباءِ والاصطفاء، والتطهيرِ والتكريم، وأمرَ بالصلاةِ عليه وعليهم كما أمرَ بالصلاةِ على إبراهيم وآلِ إبراهيم، وجعل معرفتَهم براءةً من النار، ومحبّتَهم جوازاً على الصراط
وولايتَهم أمْناً مِن العذابِ الأليم
والصلاة والسلام على سيدنا محمّدٍ النبيِّ الأُمّيِّ الذي هو على خُلُقٍ عظيم، وبالمؤمنين رؤوفٌ رحيم
وعلى ذريّتهِ وأهل بيته وعترته , الذين بذِكْرهم تُستدفَعُ نوازلُ البلاء والضرر، ويُستعاذُ من سوء القضاء وشرّالقَدَر، ويُستنزل بهم في المُحول نَوافعُ المطر، ويُستقضى بهم على غلَبات اليأس وجوامعِ الوَطَر, جَمالُ ذي الأرضِ كانوا في الحياةِ , وهُم بـعـد المـمـاتِ جـمالُ الكُتْـبِ والـسِّيَـرِ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حول الآية الكريمة رقم 69 من سورة المائدة
بعض المواقع في الإنترنت، التي تتطاول على القرآن الكريم، وتنعته بأنّه ليس فصيحاً وفيه من الأخطاء اللغوية الكثير، ويعدّدون بعضاً من الآيات التي فقرهم باللغة دفعهم إلى الاعتقاد بأنّها خارجة على قواعد اللغة العربيّة، فدخلوا من هذه الزاوية على عقول الشباب والفتيات الذين ليس لديهم أي معرفة باللغة العربية أو بالنحو أو الصرف أو البلاغة , بل أكثرهم لا يعرفون يعني إيه نحو وصرف وبلاغة للأسف تمكّنهم من معرفة كيفيّة دفع هذا الوهم
في الوقت الذي تقلصت فيه تدريس علوم القرآن الكريم وبلاغته وبيانه وتفسيره في دور التعليم المختلفة , وقد جروا وراء حروف وكلمات سوقية بعيدة عن اللغة العربية الأصلية , تهافتوا علي حفظ معاني كلمات الأغاني الهابطة والسوقية التي تخدش الحياء بألفاظها البذيئة , تاركين وراء ظهورهم اللغة التي زكاها ربهم تبارك وتعالي من عليائه حيث قال تعالي
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يوسف 2
(وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ) طه 113
( قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الزمر 28
(كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فصلت 3
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) الشورى 7
(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الزخرف 3
غير عابئين بلغتهم التي نزل بها قرآنهم العظيم والذي أعجز وتحدي الله تبارك وتعالي به جميع الأمم علي مر العصور ومازال هذه التحدي قائما إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها
جروا وراء ألفاظ مركبة من حروف لا معني لها كونت جملاً وعبارات نابية ومخدشة يتلفظون بها دون حياء أو خجل
بحثوا وفتشوا عنها وألفوا منها قواميس فيما بينهم
وكانت النتيجة للأسف غير مرضية !
فأين أنتم من لغتكم يا شباب الأمة والمستقبل ؟
فا لله الأمر من قبل ومن بعد , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
أَلَمْ يَأْنِ أن تعودوا للغتكم وأصولها , أَلَمْ يَأْنِ أن تعودوا لقرآنكم الكريم تتدارسون حروفه ومعاني وإعرابه كلماته وعلوم آياته ؟
اللهم رد شباب وفتيات المسلمين إليك وإلي كتابكم وسنة حبيبك صلي الله عليه وسلم مرداً جميلاً
لعلّ أهمّ آية يتعرّضون لها دائماً بجملة من الاتّهامات هي قول الله تبارك و تعالى
{ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } سورة المائدة، الآية 69
الصّابئون: من صبأ - أي خرج من دينٍ على دين، كَمَا تصبأ النّجوم؛ أي تخرج من مطالعها. ابن مَنْظُور، مُحَمّد بن المُكَرَّم، لسان العرب، (صبأ)، ج4، ص2385
فهذه الآية الكريمة خير مثال على ضرورة التيقّظ وعدم التّسرّع ومراعاة مقام النصّ القرآنيّ والنظر إلى المعنى، لا الجري وراء ظاهر اللفظ فحسب، لمعرفة حقيقة المراد منها معنويّاً وكيف عبّر عنه القرآن الكريم لفظاً
والإشكال المزعوم هو رفع كلمة : "الصَّابئون" في موضع يجب فيه أن تكونَ منصوبة، عطفاً على محلّ اسم "إنَّ" وهو "الذينَ" الذي هو في محلّ نصب
أي يجب أن تكون "والصّائبين" كأيِّ اسمٍ معطوف ينصب إذا عُطِفَ على منصوب، وبهذا جاء القرآن الكريم أيضاً دون أن يخرج عن القاعدة
إلاَّ هنا في هذه الآية، ففي زعمهم -والعياذ بالله تعالى- أنّه أخطأ وشذّ عن القاعدة فهو بذلك ليس من عند الله
و هذه آراء كثير من علماء النحو وعلماء التفسير في ذلك مستعيناً بالله تعالى على ذلك، دفعاً للوهم المزعوم بالدليل القاطع والبرهان الناصع، وتنزيهاً لكتاب الله الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
يرى الخليل وسِيْبَوَيْهِ أَنَّ {الصَّابِؤُونَ} مرتفعٌ على الابتداء وخبره محذوف، والتَّقْدِيْر "والصابئون والنصارى كَذَلِكَ الشَّوْكَانِيّ، محمّد بن عليّ، فتح القدير الجامع بين فنّي الرّواية والدّراية من علم التَّفسير، ج2، ص77، يقول سِيْبَوَيْهِ في الكتاب: «وأمّا قوله عزّ وجلّ {وَالصَّابِؤُونَ} فعلى التَّقْدِيم والتَّأْخِير، كَأَنَّهُ ابتدأ على قوله {وَالصَّابِؤُونَ} بعدما مضى الخبرُ»- سِيْبَوَيْهِ، عمرو بن عثمان، الكتاب (مؤسّسة الرّسالة)، ج3، ص41
وأنشد قول الشاعر بشر بن أبي خازم- هو عمرو بن عوف الأسديّ، أبو نوفل ( -22ق.هـ)، شاعر جاهليّ فحل، من أهل نجد، من بني أسد بن خزيمة، اشتهر بالفخر والحماسة، وله ديوان شعر. الزّركليّ، خير الدِّين، الأعلام، ج2، ص54
وَإِلاَّ فَـاعْلَمُـوا أَنَّـا وَأَنْتُـمْ ...... بُغَـاةٌ مَا بَقِيْنـا فِـي شِقَـاقِ
والقصيدة يهجو فيها بشرٌ أوسَبنَ حارِثة، والبغاة: جمع باغٍ، وهو الَّذِي يعدل عن الحقّ ويميل، والشّقاق: الاختلاف والفرقة. وهو في "الكتاب". سِيْبَوَيْهِ، عمرو بن عثمان، الكتاب (مؤسّسة الرّسالة)، ج3، ص42 وفي "الخزانة" أَيْضَاً بالرواية نفسها. البغداديّ، عبد القادر بن عمر، خزانة الأدب ولبّ لباب لسان العرب، ج1، ص293-294-297-299-300-314-315.
ورواية الدِّيوان في العجز: "بُغَاةٌ ما حَيِيْنَا في شقاقِ". ابن أبي خازم، بشر، الدِّيوان، تحـ. د. عزّة حسن، ط2، وزارة الثّقافة، دمشق، 1392هـ-1972م، ص165
فكَأَنَّهُ قال: بغاةٌ ما بقينا وأنتم
سِيْبَوَيْهِ، عمرو بن عثمان، الكتاب- مؤسّسة الرّسالة ج3 ص42
ومَنْ ذهب هَذَا المذهب استشهد أَيْضَاً بقول الشاعر
وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِيْنَةِ رَحلُهُ ....... فَإِنِّـي وَقَيَّـارٌ بِهَـا لَغَرِيْـبُ
البيت لضابئ بن الحارث البرجميّ، والرّحل: الإقامة، والقيّار: اسم راحلته
رواه ابن قُتَيْبَة برفع "قيّارٌ". ابن قُتَيْبَة، أبو محمّد عبد الله، الشّعر والشّعراء، تحـ. أحمد محمّد شاكر، ج1، دار الحديث، القاهرة، 1423هـ-2003م، ص339
ورواه أَيْضَاً ابن الأَنْبَارِيّ بالرّفع. ابن الأَنْبَارِيّ، كمال الدِّين أبو البَرَكَات، الإنصاف في مسائل الخلاف بين النَّحْوِيِّيْنَ البَصْرِيِّيْنَ والكُوفِيِّيْنَ، ج1، ص78
وهو في "المغني" لابن هِشَام كَذَلِكَ بالرّفع, الأَنْصَارِيّ، جمال الدِّين بن هِشَام، مُغْنِي اللَّبِيْب عَنْ كُتُبِ الأَعَارِيْب، ص618
ورواه سِيْبَوَيْهِ في "الكتاب" تحت عنوان "استطراد في موضوع الاستغناء" بنصب "قيّاراً"، عطفاً على موضع اسم "إنّ". سِيْبَوَيْهِ، عمرو بن عثمان، الكتاب (مؤسّسة الرّسالة)، ج1، ص120-121
وَكَذَلِكَ ورد في الّلسان بالنّصب. ابن مَنْظُور، مُحَمّد بن المُكَرَّم، لسان العرب، (قير)، ج5، ص3793
وكَأَنَّهُ قال: فإنّي لغريبٌ وقيّارٌ كَذَلِكَ- الشَّوْكَانِيّ، محمّد بن عليّ، فتح القدير الجامع بين فنّي الرّواية والدّراية من علم التَّفسير، ج2 ص78
ليكون تقدير الآية على هَذَا التَّأوِيل -كما ذكره القُرْطُبِيّ-: «إِنَّ الَّذِيْنَ آمنوا والَّذِيْنَ هادوا مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كَذَلِكَ» القُرْطُبِيّ, أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّد, الجامع لأحكام القرآن, مج3، ج6، ص159
ويكون بِذَلِكَ العطف من باب عطف الجمل، فالصابئون وخبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله {إِنَّ الَّذِيْنَ آمَنُواْ}، ولا محلّ لها، كما لا محلّ للجملة الَّتِي عطفت عليها- الدّرويش، محيي الدِّين، إعراب القرآن الكريم وبيانه، مج2، ص527
فيصير العطف على الموضع، بعد خبر {إِنَّ} في المعنى- القيسيّ، مكّيّ بن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن، ج1، ص239
وَيَرَى بعض النَّحْوِيِّيْنَ أَنَّ {الصَّابِؤُونَ} مرفوعٌ بالابتداء، وخبره محذوفٌ كمذهب الخليل وسِيْبَوَيْهِ، إِلاَّ أَنَّهُ لا يُنْوى بهَذَا المبتدأ التَّأْخِير، نقله أبو البقاء في "التّبيان" العُكْبَرِيّ، أبو البقاء، التّبيان في إعراب القرآن، ج1، ص338
وضعّفه في "الإملاء" العُكْبَرِيّ، أبو البقاء، إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقِرَاءَات، ج1، نشر إِبْرَاهِيم عوض، مصر، 1369هـ-1961م، ص222
لِمَا فيه من لزوم الحذف والفصل أي حذف خبر المبتدأ، والفصل بين الاسم والخبر بأجنبيّ
أي لِمَا يلزم من الجمع بينهما
وَيَرَى الكِسَائِيّ والأَخْفَش أَنَّ {الصَّابِؤُونَ} معطوفٌ على المضمر في {هَادُواْ}- الآلوسيّ، شهاب الدِّين، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسّبع المثاني، مج4، ج6، ص295
والزَّجَّاج خطّأَهُ من جهتين: إحداهما أَنَّ المضمر المرفوع يقبح العطف عليه حَتَّى يؤكّد، والأخرىأَنَّ المعطوف شريك المعطوف عليه فيصير المعنى أَنَّ الصّابئين قد دخلوا في اليهوديّة، وهَذَا محالٌ- الزَّجَّاج, أبو إسحاق إِبْرَاهِيم, معاني القرآن وإعرابه, ج2، ص213
وقد ردّ هَذَا الرأي أَيْضَاً الفَرَّاء- تلميذ الكِسَائِيّ- الفَرَّاء، يحيى بن زياد، معاني القرآن، ج1، ص312
واجتهدَ الأَخْفَش اجتهاداً آخَرَ أَيْضاً، وهوأَنَّ "إِنَّ" بمعنى "نَعَمْ" وتبعه بعض النَّحْوِيِّيْنَ؛ فهي حرف جواب ولا محلّ لها حينئذٍ، وَعَلَى هَذَا فما بعدها مرفوعُ المحلّ على الابتداء، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفعِ، وخبر الجميع قوله {مَنْ آمَنَ} إلى آخره- الحَلَبِيّ، أحمد بن يوسف، الدّرّ المصون في علوم الكتاب المكنون، ج4، ص355
وكونها بمعنى "نعم" قولٌ مرجوحٌ، والشاهد على ذَلِكَ قول عبيد الله بن قيس الرّقيّات- هو ابن شُرَيح بن مالك ( -85هـ)، مِنْ بني عامر بن لؤيّ، شاعر قُرَيش في العصر الأمويّ، أكثرُ شعرِهِ الغَزَلُ والنّسيب، له ديوان شعر. الزّركليّ، خير الدِّين، الأعلام، ج4، ص196
بَكَـرَتْ عَلَـيَّ عَوَاذِلـِي ........ يَلْحَيْنَنِي، وَأَلُـومُـهُنَّــهْ- لحاه: لامه وعاتبه وعابه. الرّقيّات، عبيد الله بن قيس: الدِّيوان، تحـ. د. محمّد يوسف نجم، دار صادر، بيروت، د.ت، ص66, وروى سِيْبَوَيْهِ البيتين في "الكتاب"، باختلافٍ في بعضِ الّلفظ في البيت الأوّل، فروايته
بَكَرَ العواذلُ في الصَّبو حِ يَلُمْنَنِي، وألـومُـهُنَّـهْ
ورأى أنّ "إنّ" بمنزلةِ "أَجَلْ"، وهو قولٌ عن العرب. سِيْبَوَيْهِ، عمرو بن عثمان، الكتاب (مؤسّسة الرّسالة)، ج4، ص317
ويَقُلْـنَ: شَيْـبٌ قَـدْ عَلا .........كَ وَقَدْ كَبِرْتَ، قُلْتُ: إِنَّـهْ - وَيَرَى بعضُ النَّحْوِيِّيْنَ أنّ "الهاء" في "إنّه" اسمها، والخبر محذوف؛ أي: "إنّه لكَذَلِكَ". الرقيّات، عبيد الله بن قيس، الدِّيوان، ص66
ونقل عنه القُرْطُبِيّ قوله: «قال الأخفش: "إنّهْ" بمعنى "نَعَمْ"، وهَذِهِ "الهاء" أدخلت للسّكت- السَّكْت: هو الوقف وانقطاع الصّوت عند آخر الكلام، وللسَّكْتِ "هاءٌ"، تُسَمَّمى "هاء السَّكْت"؛ أي: هاء الوقف، وقد سُمِّيت بِذَلِكَ لأَنَّهُ يُسْكَتُ عليها، دون آخِرِ الكلمةِ.الّلبديّ، د. محمد سمير نجيب، معجم المصطلحات النَّحْوِيَّة والصَّرْفِيَّة ص106
القُرْطُبِيّ, أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّد, الجامع لأحكام القرآن, مج3، ج6، ص160»
ونقل السَّمِيْن الحَلَبِيّ عن هِشَام بن معاوية، رأيه بأَنْ تُضْمِرَ خبر {إِنَّ}، وتبتدئ بـ {الصَّابِؤُونَ}، والتَّقْدِيْر "إِنَّ الَّذِيْنَ آمنوا والَّذِيْنَ هادوا يُرْحَمُون"الحَلَبِيّ، أحمد بن يوسف، الدّرّ المصون في علوم الكتاب المكنون، ج4، ص359
فيحذف الخبر إذ عُرف موضعه، كما حذف من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} سورة فصّلت، الآية 41- أي "يُعَاقَبُون"
وَيَرَى مكّيّ أنّه: «رفع {الصَّابِؤُونَ}؛ لأَنَّ {إِنَّ} لم يظهر لها عملٌ في {الَّذِيْنَ}، فبقي المعطوف على رفعه الأصليّ قبل دخول {إِنَّ} على الجملة» القيسيّ، مكّيّ بن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن، ج1، ص238
وهَذَا هو مذهب الفَرَّاء عينُهُ - الفَرَّاء، يحيى بن زياد، معاني القرآن، ج1، ص311
فهو يجيز الرَّفْع نسقاً على محلّ اسم "إِنّ" إِذَا لم يظهر فيه إعراب, لأَنَّهُ قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء، ولمّا دخلت عليه لم تغيّر معناه بل أكّدته- الحَلَبِيّ، أحمد بن يوسف، الدّرّ المصون في علوم الكتاب المكنون، ج4، ص357
ولذَلِكَ اختصّتْ "إِنَّ وَأَنَّ" بِذَلِكَ دون سائر أخواتهما لبقاء معنى الابتداء فيها- وَكَذَلِكَ "لكنّ"؛ لاشتمالها على معنى الاستدراك، فهي لا تغيّر المعنى وإنّما تستدركه
بخلاف "ليت ولَعَلَّ وكأنّ" فإنّه خرج إلى التّمنّي والتّرجّي والتّشبيه- المُبَرِّد، أبو العبّاس، المقتضب، ج4، ص114
وَيَرَى بعضهم أَنَّ {الصَّابِؤُونَ} منصوبٌ، وإِنَّمَا جاء على لغةِ بني "بلحارث بن كعب" - قال الجار بردي: «إنّ بلحارث بن كعب، وخثعماً، وزبيداً، وقبائل من اليمن، يجعلون ألف الاثنين في الرّفع، والنّصب، والخفض على لفظٍ واحد»، وقال ابن جماعة: «نَسَبَها إلى بني الحارث من النَّحْوِيِّيْنَ الكِسَائِيّ، ونسبها أَيْضَاً إلى خثعم وزبيد وهمدان، ونسبها أبو خطّاب لكنانة، وبعضهم لبني العنبر، وعذره، ومراد، وغيرهم». ابن خَالَوَيْهِ، الحسين بن أحمد، الحجّة في القِرَاءَات السبع، تحـ. د. عبد العال سالم مكرم، ط1، مؤسّسة الرّسالة، بيروت-لبنان، 1421هـ-2000م، ص242
وغيرهم، الَّذِيْنَ يجعلون المثنّى بالألف في كلّ حال، وكذا الواو علامة رفع المجموع سلامةً، ونقل ذَلِكَ مكّيّ في المشكل- القيسيّ، مكّيّ بن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن، ج1، ص238
وأبو البقاء في الإملاء- العُكْبَرِيّ، أبو البقاء، إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقِرَاءَات، ج1، ص222
ورأى القاضي أبو السّعود- هو محمّد بن محمّد بن مُصطفى العماديّ، الحنفيّ ( -982هـ)، فقيه، أصوليّ، مُفسِّر، شاعر، عارف باللُّغَات العَرَبِيَّة، والفَارِسِيّة، والتّركيّة، قرأ على والدِهِ كثيراً، له: "إرشاد العقل السّليم إلى مزايا القرآن الكريم"، و"تحفة الطّلاّب في المُناظرة"، وله شعرٌ, كحَالة، عمر رضا، معجم المؤلّفين، ج3، ص693
«أنّه وسط بين اسم {إِنَّ} وخبرها دلالة علىأَنَّ "الصّابئين" مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلّها حَيْثُ قبلت توبتُهُمْ، إِنْ صَحَّ مِنْهُمُ الإِيمانُ والعملُ الصَّالِحُ، فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ»- أبو السّعود، محمّد بن محمّد العماديّ، تفسير أبو السّعود المُسَمّى إرشاد العقل السّليم إلى مزايا القرآن الكريم، ج3، دار إحياء التُّرَاث العربيّ، بيروت – لبنان، د.ت، ص62
وَيَرَى أبو عليّ الفَارِسِيّ أَنَّ علامة النَّصْب في {الصَّابِؤُونَ} فتحة النون، والنون حرف الإعراب، فهي كـ "الزّيتون" و"عربون" - الحَلَبِيّ، أحمد بن يوسف، الدّرّ المصون في علوم الكتاب المكنون، ج4، ص361
وقال أبو البقاء: «فَإِنْ قيل إِنَّمَا جاز أبو عليّ ذَلِكَ مع "الياء" لا مع "الواو"، قيل قد أجازه غيرُهُ، والقياسُ لا يدفعه»- العُكْبَرِيّ، أبو البقاء، إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقِرَاءَات، ج1، ص222
ومِنَ الَّذِيْنَ أطالوا الكلام في هَذِهِ الآيةِ مِنَ المُتأخِّرينَ ابن عاشور، الَّذِي خالفَ فيما جاء بهِ الكثير مِنْ أقوال السّابقين، يقول: «موقع هَذِهِ الآية دقيق، ومعناها أدقّ، وإعرابها تابعٌ لدقّةِ الأمرين؛ لأَنَّ إعرابها يتعقّد إشكاله بوقوعِ قوله {وَالصَّابِؤُونَ} بحالةِ رفعٍ بالواو، في حين أَنَّهُ معطوفٌ على اسم {إِنَّ} في ظاهر الكلام» - ابن عاشور، محمّد الطّاهر، التّحرير والتّنوير، مج3، ج6، ص267
فهو يرى أنّ: «خبر {إِنَّ} محذوف دلّ عليه ما ذكر بعده من قوله {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}، ويكون قوله {وَالَّذِيْنَ هَادُواْ} عطفَ جملةٍ على جملةٍ، فيجعل {الَّذِيْنَ هَادُواْ} مبتدأ، ولذَلِكَ حقّ رفع ما عُطِفَ عليه، وهو {الصَّابِؤُونَ}، ويكون قوله {مَنْ آمَنَ بِاللّهِ} مبتدأً ثانياً، وتكون "مَنْ" موصولة، والرابطُ للجملة بالَّتِي قبلها محذوفاً؛ أي "مَنْ آمن منهم"، وجملة {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} خبراً عن {مَنْ} الموصولة، واقترانها بالفاء؛ لأَنَّ الموصول شبيه بالشّرط، وذَلِكَ كثير في الكلام، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِيْنَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ}- سورة البروج، الآية 10
ووجود الفاء فيه يعيّن كونه خبراً عن {مَنْ} الموصولة، وليس خبرَ {إِنَّ}، على عكس قول ضابئ بن الحارث البرجميّ- وهو ضابئ بن أرطاة التّميميّ البُرجميّ ( -30هـ)، شاعر مُخَضْرَم أدركَ الجاهليّة والإسلام، مِنَ الطّبقة التَّاسِعة. الجُمَحِيّ، محمّد بن سلاّم، طبقات الشّعراء الجاهليين والإسلاميين، ص64, وانظر الزّركليّ، خير الدِّين، الأعلام، ج3، ص212
فَإِنَّ وجود "لام" الابتداء في قوله "لغريبُ" عيّنَ أَنَّهُ خبر "إِنَّ"»- ابن عاشور، محمّد الطّاهر، التّحرير والتّنوير، مج3، ج6، ص269
وبناءً على هَذِهِ الوجوه الإعرابيَّة الَّتِي ذهب إليها ابن عاشور، يكون تقدير الآية الكريمة "إِنَّ الَّذِيْنَ آمنوا لا خوفٌ عليهم"، ثُمّ تأتي جملة جديدة مصدّرة بمبتدأ لتنعطف على الجملة الأولى؛ أي "والَّذِيْنَ هادوا والصابئون والنصارى"، ثُمّ تأتي جملة جديدة مصدّرة بمبتدأ ثانٍ لتكون خبراً للمبتدأ {الَّذِيْنَ هَادُواْ}؛ أي "مَنْ آمن مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون"
ويدافع ابن عاشور عن رأيه، معلِّلاً، ومستشهِداً، ومناقشاً، ويؤكّدأَنَّ هَذَا الّلفظ -وَإِنْ لَمْ يكن شائعاً- فإنّه فصيح، وله بلاغتُهُ، وحكمتُهُ الَّتِي ينطوي عليها، بقوله: «والَّذِي سلكناه أوضحُ، وأجرى على أسلوب النّظم، وأليق بمعنى هَذِهِ الآيةِ... إِنَّ هَذَا الّلفظ كَذَلِكَ نزل، وَإِنْ كانَ استعمالاً غيرَ شائعٍ، لَكِنَّهُ مِنَ الفصاحةِ والإيجازِ بمكان؛ وذَلِكَ أَنَّ مِنَ الشّائع في الكلام أَنَّهُ إِذَا أتى بكلامٍ مؤكّد بـ "إِنَّ"، وأتى باسمها وخبرها، وأُريد أَنْ يعطفوا على اسمها معطوفاً هو غريب في ذَلِكَ الحكم، جيء بالمعطوف الغريب مرفوعاً ليدلّوا بِذَلِكَ على أنّهم أرادوا عطف الجمل لا عطف المفردات، فيقدّر السامع خبراً بحسب سياق الكلام، ومن ذَلِكَ قوله تعالى{أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} سورة التوبةالآية3
أي "ورسولُهُ كَذَلِكَ"، فَإِنَّ براءَته مِنْهُمْ في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم أمرٌ كالغريب، ليظهر منهأَنَّ آصرة الدِّين أعظمُ من جميع تِلْكَ الأواصر»- ابن عاشور، محمّد الطّاهر، التّحرير والتّنوير، مج3، ج6، ص270–271
ويكفي دليلاً على مكانة علمِ النَّحْو والإعراب، وَعَلَى فضل النَّحْوِيِّيْنَ بين مفسّريّ كتاب الله تعالى، ما قاله أَبُو حَيَّان في"النهر المادّ"، معلِّقاً على هَذِهِ الآية الكريمة، وما تقتضيه من تأويلات وتعليلات: «ودلائل هَذِهِ المسألة مقرّرة في علم النّحْو» - أَبُو حَيَّان، أثير الدِّين، النّهر المادّ من البحر المحيط، تقديم وضبط بوران وهِدْيان الضّنّاوي، ج1، ط1، دار الحنان، بيروت-لبنان، 1407هـ -1987م، ص607
فهو الحكم فيها، والوصي عليها، وهَذَا يدلّ على أَنَّ معنى هَذِهِ الآية متوقّفٌ على تأويل النَّحْوِيِّيْنَ لها؛ ولَعَلَّ هَذَا ما يسمّى بفقه النَّحْو الَّذِي نحتاج اليوم إلى التعمّق في دراسته، والتبحّر في تحليلاته وتأويلاته
وكلّها تأويلاتٌ حسنة مدعومة بأبياتٍ شعريّة سبقت نزول القرآن الكريم، أو بلهجات عربيّة لإحدى القبائل العربيّة التي نزل القرآن الكريم منها جميعها، تدفع الوهم المزعوم، والخطأ الذي ادعوه، جهلاً وافتراءً وكذباً على الله تعالى؛ ليبقى القرآن الكريم منزّهاً عن كلِّ عيبٍ أو نقصٍ، أو خللٍ
التوقيع |
يا آل بيت رسـول الله حبكـم*فرض من الله في القرآن أنزله يكفيكم من عظيم الفخر أنكـم*من لم يصــل عليــكم لا صلاة له |