السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ويسألونك عن مخاطر التكفير من الظواهر التي شاعت في حياتنا الفكرية في
العقود الأخيرة , ظاهرة الضيق بالرأي المخالف , وحكم غير المختصين في أعمال فكرية لا علاقة لتخصصهم العلمي بها , وقياسها بغير المعايير التي تقاس بها؟!
والذهاب في ضيق الصدر الفكري إلى حد الحكم بالكفر على هؤلاء المخالفين؟.!
ويخطئ من يظن أن هذا السلوك الردئ وقف على الإسلاميين الذين يكفرون نفراً من العلمانيين ذلك أن سلاح التكفير هذا أصبح مشهراً ضد العديد من فصائل الإسلاميين توجهه ضدهم دول ومؤسسات وليس مجر كتاب أو مفكرين؟!
الأمر الذي يدعو إلى الاحتكام إلى الإسلام طلبا لكلمة سواء في هذا الأمر الخطير
وإذا كان إسلامنا قد علمنا أن معرفة الحق هي السبيل إلى معرفة أهله , وأن الإسلام هو الحاكم على الرجال دون أن يكون في تصرفات الرجال . إذا تنكيت طريق الحق ما يعيب الإسلام – ومن ثم فإن على مختلف الفرقاء الذين يدافعون عن الإسلام دفاع " الدبة التي قتلت صاحبها" من فرط حبها غير الواعي – إياه!
وأيضاً أولئك الذين يتلقفون صنيع هذه الدبة لتشويه الدعوة المقدسة والنبيلة من اجل استكمال أسلمة الواقع والقانون في مجتمعات المسلمين .
إن مختلف الفرقاء في هذه القضية مدعوون إلى الاحتكام إلى الحق كما تمثل في أصول الإسلام قرآناً وسُنة , وفي فكر أعلامه, وفي تطبيقات هذه الأصول ومناهج هؤلاء الأعلام , ومنهم علماء وأعلام الزهر الشريف على امتداد تاريخه العريق
فالله سبحانه وتعالى يعلمنا بقرآنه الكريم تفرده وحده واختصاصه دون سواه بالحكم على العقائد والضمائر والأفئدة والقلوب لأنه وحده صاحب العلم المحيط بما فيها لم يعط شيئا من ذلك لأحد سواه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) النساء آية 94
ولقد وقف أئمة تفسير القرآن الكريم وأعلامه أمام هذا التوجيه القرآني والفريضة الإلهية , وقفة ذات , دلالة , فقالوا لنا : إن في هذا التوجيه الإلهي من الفقه باب عظيم وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر - فالله لم يجعل لعباده غير الحكم الظاهر – القرطبي (الجامع لأحكام القرآن- ج5 ص 339-340طبعة دار
الكتب المصرية
فعلى من يقلدون الكهانة الكنسية باسم الإسلام وأيا كانت مواقعهم أن يتقوا الله في الإسلام الذي لم يحفظوا كتابه , ولم يفقهوا علومه , ولم يكتبوا في فكره كتاباً واحد؟!
وعلى أعداء الشريعة وأنصار التغريب والمبشرين بالتبعية للحضارة الغربية أن يعلموا أن هذه الصغائر ليست من الإسلام في شيء ومن ثم فلا حجة فيها على الإسلام ؟!
ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم هو الذي نتعلم منه المنهج والقدوة في هذا المقام لقد جاء نفر من صحابته يحدثونه عن الوساوس التي جعلتهم يشكون في جوهر الدين ومحور التدين في ذات الله ؟ّ
فلم يجزع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينهرهم , ولم يتصيد مواقف الضعيف ليوجه الاتهامات , بل وصف حالهم وقلقهم الفكري وشكهم المنهجي الباحث عن سبل اليقين بأنه صريح الإيمان ومحض الإيمان ولبه وجوهره
ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه يقول " جاء نفر من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إن أحدنا يحدث نفسه بالشيء ما يحب أن يتكلم به وأن له ما على الأرض من شيء وإنا
نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به !
فأجابهم الهادي البشير صلى الله عليه وسلم وقد وجدتموه؟!
قالوا نعم , فقال صلى الله عليه وسلم " ذلك صريح الإيمان , ذلك محض الإيمان"- حديثان رواهما الإمام مسلم وأحمد
وإنها لشهيرة وحاسمة قصة ذلك الحديث الذي رواه بطلها أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات - مكان من جهينة- فأدركت رجلاً فقال : لا إله إلا الله , فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبيصلى الله عليه وسلم, فقال صلى الله عليه وسلم" أقال لا إله إلا الله وقتلته؟!
قال قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح , قال صلى الله عليه وسلم" أفلا شققت عن قلبه حتي تعلم أقالها أم لا؟! فما زال يكررها علي حتي تمنيت إني أسلمت يومئذ- رواد أبو داود وابن ماجه والإمام أحمد
وأما هذا المنهج النبوي والموقف الإسلامي
الجامع يقف الإمام النووي (621-676هـ)( 1233م-1277م) وهو يشرح صحيح مسلم فيقول وأما القلب فليس لك طريق إلى ما فيه !
فعلى الذين لم يفقهوا نهج الإسلام في صيانة العقائد عن عبث الأحكام وطائش القرارات أن يتقوا الله في هذا النهج تميز به الإسلام وامتاز على غيره من الديانات وعلى الذين يكيدون للإسلام الحنيف ونهجه بتصيد العابث من الأحكام والطائش من القرارات أن يميزوا بين ذلك النهج الراقي للإسلام الحنيف وبين عبث العابثين فمعرفة الحق هي السبيل إلى معرفة أهله وليس العكس – وليس في حكم الرجال ما ينهض حجة على الإسلام ؟!
وها هو حجة الإسلام أبو حامد الغزالي ( 450-505 هـ -1058-1111م) يعلم الدنيا أن هذا النهج الإسلامي لم يكن مجرد فكر نظري وإنما كان التزام حضارة وضعه أعلامها في الممارسة والتطبيق فيقول:
إنه ينبغي الاحتراز من التكفير ما وجد الإنسان إلى ذلك سبيلا , فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله , خطأ , والخطأ في نرك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم! – انظر الاقتصار في الاعتقاد ص 143 طبعة القاهرة مكتبة صبيح بدون تاريخ
وفي عصرنا الحديث نجد السيادة لهذا المنهج
الإسلامي العظيم – فعندما يخلط واحد من دعاة التغريب – هو فرح أنطون (1874- 1922م بين موقف الإسلام ونهجه هذا وبين الكهانة الكينسية الغربية التي زعمت لنفسها حق الحكم علة العقائد والضمائر – ينبري إمام الاجتهاد الإسلامي الحديث والابن البار للأزهر الشريف الشيخ محمد عبده ( 1266-1323هـ- 1849- 1905م) ليقول" إن الله لم يجعل للخليفة ولا للقاضي ولا للمفتي ولا لشيخ الإسلام أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه أو ينازعه في طريق نظره – فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعة إلى الخير والتنفير من الشر , وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلامهم , كما خولها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم وليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام على أخر مهما انحطت منزلته فيه إلا حق النصيحة والإرشاد ولقد اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد , حمل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر- انظر الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ج2 ص 283- 289- دراسة وتحقيق د0 محمد عمارة – طبعة بيروت سنة 1973م
فكان في هذا الفكر الوجه المشرق للإسلام في هذا الموضوع تعلم منه أهل الإخلاص من الإسلاميين والعلمانيين على حد سواء!
بل وما لنا لا نذكر كل الفرقاء من أنصار أسلمة الواقع والقانون , ومن دعاة التغريب والتبعية للغرب في الفكر والسلوك ما لنا لا نذكر كل هؤلاء الفرقاء بنهج الأزهر تاريخيا في مثل هذه الأمور
لقد جاء حين من الدهر ادعى فيه واحد من علماء الأزهر – وهو المرحوم الشيخ علي عبدالرازق (1305- 1386هـ - 1887-1966م) دعوى لم يقل بمثلها عالم مسلم عبر تاريخ الإسلام الطويل – ادعى أن الإسلام دين لا دولة وأن نبيه صلى الله عليه وسلم رسول رسالة روحية وليس حاكماً ولا قائد دولة , وأن هذا الإسلام مثله كمثل المسيحية بدعو لأن ندع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ؟!
وعندما تصدى الأزهر الشريف يومئذ لهذه الدعوى وجدنا وثائقه الفكرية التي نقضت هذا الزعم قد برئت من أي اتهام للرجل في عقيدته , استوت في ذلك حيثيات حكم هيئة كبار العلماء وما كتبه الإمام الكبر محمد الخضر حسين في كتابه ( نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم ) وما كتبه المفتي محمد بخيت المطيعي في كتابه ( حقيقة الإسلام وأصول الحكم ) بل وكان ذلك هو التزام الأزهر وعلمائه عندما خرج الدكتور طه حسين سنة 1926م بكتابه في الشعر الجاهلي وفيه ما فيه من إلقاء ظلال الشك الديكارتي على بعض من قصص القرآن الكريم , إلى السنة النبوية الشريفة , إلى النهج الذي انتهجه أئمة الإسلام وأعلامه , والذي جسدته مواقف الأزهر الشريف عبر تاريخه العريق كانت مقارعة الحجة بالحجة والدعة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة , والتحرج كل التحرج من الكهانة والسلطة الدينية في الحكم على الضمائر والعقائد والأفئدة والقلوب
وعندما أصيبت بعض الفصائل الشبابية في حركة الصحوة الإسلامية المعاصرة بداء الحكم على عقائد المسلمين بالكفر وعلى مجتمعاتهم بالارتداد إلى الجاهلية , كان الأزهر في مقدمة من تصدى لهذا الانحراف عن نهج
الإسلام بالنقد والتفنيد والتوجيه
تلك هي تقاليد الإسلام الدين والإسلام الحضارة مع هذه القضية التي يجب أن يراعى فيها الجميع هذه التقاليد التي أرساها الإسلام منذ أن نزل الوحي بكتابه المبين علي قلب الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم
لأن طوق النجاة لهذه الأمة إنما يكمن في الإبداع والاجتهاد والتجديد الذي تصوغ به مشروعها الحضاري المقدس لوضع هذا المشروع في الممارسة والتطبيق وإن هذا البلاء المتمثل في ضيق الأفق وضيق
الصدر الفكري , إلى حد تكفير المخالفين , إن هذا البلاء هو أعدى أعداء الإبداع والاجتهاد والتجديد
فليتق الله المخلصون – الغافلون – من مختلف الفرقاء
د- محمد عمارة
مجلة منبر الإسلام
السنة 70- العدد 6
جمادي الآخرة 1432هـ - مايو 2011م