حقية التصوف ج2ولكن قبل أن نتطرق إلى هذا المؤلف الهام للسيوطى ، نحب أن نذكر شيئا عن هذه القضية الشائكة التى اتهم بها باطلا العديد من رموز الإسلام ، وهى قضية بحاجة حقيقية لقراءة منصفة ومتزنة ومكتملة الأدوات ، حتى تستطيع أن تقدم لنا حلا فاصلا لهذه القضية ، وترفع وصم الاتهام عمن اتهموا بها طيلة عقود وقرون طويلة .
وإن كانت هذه الدراسة لا تحتمل مثل هذا لكن يمكن فى فقرة واحدة أن نذكر عن ابن عربى - أشهر من نسب إليه ذلك - قوله فى ذم فريق الصوفية ممن خرجوا عن روح التصوف الحقيقية فيقول : ((كما أنى ذممت الصوفية فى كتابى هذا ولم أرد به الصادقين ، وإنما أعنى الصنف الذى تزيا بزيهم عند الناس وباطنه بخلاف ذلك)) ، ويقول : ((وكذلك ذمى للصوفية أذم هذا الصنف الذى ذكرت ، فإن الحلولية والإباحية وغيرهم فى هذا الطريق ظهروا وتظاهروا واتصفوا فهم قرناء الشيطان ، وخلفاء الخسران))([19]) .
والفتوحات المكية الكتاب الأكبر لابن عربى والذى فرغ منه قبل وفاته بعامين يخلو تماما من أية إشارة إلى الحلول والاتحاد ، بل فيه مئات المواضع التى تقطع بوجود الفارق بين المخلوق والخالق ، وبأن هناك رب وعبد ، وحق وخلق ، ومثل هذه النصوص قاطعة بأن الشيخ ابن عربى لا يقول بحلول ولا اتحاد ، وأن ذلك دس عليه .
وإذا عدنا إلى الإمام السيوطى لنرى موقفه من هذه القضية فنجده يقول : ((القول بالحلول والاتحاد الذى هو أخو الحلول أول من قال به النصارى … وأما المتوسمون بسمة الإسلام فلم يبتدع أحد منهم هذه البدعة وحاشاهم … وأحسن ما اعتذر به عمن صدرت منه هذه الكلمة الدالة على ذلك : أنه قال ذلك فى حال سكر واستغراق غيبوبة عقل ، وقد رفع الله التكليف عمن غاب عقله ، وألغى أقواله فلا تعد مقالته هذه شيئا ، ولا يلتفت إليها فضلا عن أن تعد مذهبا ينقل ، وما زالت العلماء ومحققو الصوفية يبينون بطلان القول بالحلول والاتحاد وينبهون على فساده ويحذرون من ضلاله ، وهذه نبذة من كلام الأئمة فى ذلك …))([20]) ، ثم أخذ فى نقل كلامهم .
والملاحظة الأساسية التى ينبهنا السيوطى عليها هى كيفية فهم المصطلحات وعدم المجازفة والتسرع فى الفهم ، ومما قاله : ((والحاصل أن لفظ الاتحاد مشترك فيطلق على المعنى المذموم الذى هو أخو الحلول وهو كفر ، ويطلق على مقام الفناء اصطلاحا اصطلح عليه الصوفية ، ولا مشاحة فى الاصطلاح إذ لا يمنع أحد من استعمال لفظ فى معنى صحيح لا محذور فيه شرعا ، ولو كان ذلك ممنوعا لم يجز لأحد أن يتفوه بلفظ الاتحاد ، وأنت تقول : بينى وبين صاحبى اتحاد ، وكم استعمل المحدثون والفقهاء والنحاة وغيرهم لفظ الاتحاد فى معان حديثية وفقهية ونحوية كقول المحدثين : اتحاد مخرج الحديث ، وقول الفقهاء : اتحاد نوع الماشية ، وقول النحاة : اتحاد العامل لفظا أو معنى . وحيث وقع لفظ الاتحاد من محققى الصوفية فإنما يريدون به معنى الفناء الذى هو محو النفس وإثبات الأمر كله لله سبحانه ، لا ذلك المعنى المذموم الذى يقشعر له الجلود ، وقد أشار إلى ذلك سيدى على بن وفا فقال فى قصيدة له :< xml="true" ns="urn:schemas-microsoft-com:office:office" prefix="o" namespace="">
وقلبى من سوى التوحيد خالى | | يظنوا بى حلولا واتحادا |
فتبرأ من الاتحاد بمعنى الحلول ، وقال من أبيات أُخَر :
هو المعنى المسمى باتحاد | | وعلمك أن كل الأمر أمرى |
فذكر أن المعنى الذى يريدونه بالاتحاد إذا أطلقوه هو تسليم الأمر كله لله ، وترك الإرادة معه والاختيار والجرى على مواقع أقداره من غير اعتراض وترك نسبة شىء ما إلى غيره … وكان الشيخ أبى العباس المرسى تلميذ الشيخ الكبير أبى الحسن الشاذلى شديد الإنكار على الاتحادية والنهى عن طريقهم ، ويقول : أتكون الصنعة كالصانع . يقول الإمام السيوطى : ((ولهذا كانت طريقة الشاذلى هى أحسن طرق التصوف وهى فى المتأخرين نظير طريقة الجنيد فى المتقدمين))([1]) ، ثم نقل عن العلامة ابن القيم فى شرح منازل السائرين([2]) أن غاية المحبة اتحاد مراد المحب بمراد المحبوب وفناء إرادة المحب فى مراد المحبوب فهذا الاتحاد والفناء هو اتحاد خواص المحبين … وأنه يتحد المرادان فيصير عين مراد الرب تعالى هو عين مراد العبد وهذه حقيقة المحبة الخالصة وفيها يكون الاتحاد الصحيح وهو الاتحاد فى المراد لا فى المريد ولا فى الإرادة([3]) .
وكما كان الإمام السيوطى مرجعا للفتوى من أهل العصر فى الفقه والأحكام والنوازل ، فكان مرجعا أيضا لهم فيما يشكل عليهم فيما يتعلق بالتصوف ، فبالإضافة إلى بعض الرسائل التى كتبها جوابا لبعض السائلين فيما يتعلق بأمر من أمور الصوفية ، فسنجد العديد من الفتاوى الأخرى التى ذكرها فى الحاوى تتعلق بالتصوف ، وقد جمعت تحت عنوان ((الفتاوى المتعلقة بالتصوف))([4]) .
لا عجب بعد ذلك أن نجد تلميذه عبد الوهاب الشعرانى يستهل كتابه الطبقات الصغرى بترجمة شيخه السيوطى ، وينعته بقوله : ((شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى الشيخ جلال الدين السيوطى))([5]) ، لقد رأى الشعرانى فى جهاد شيخه السيوطى ومواقفه القوية فى نصرة الحق والعمل بالشرع والفهم الصحيح عن الله ورسوله ما يستحق به أن يجعله قدوته إلى الله تعالى .
([19]) الدرة الفاخرة فى ذكر من انتفعت به فى طريق الآخرة ، لابن عربى (ص 14) ، نقلا عن نظرية وحدة الوجود بين ابن عربى والجيلى ، للدكتورة سهيلة عبد الباعث الترجمان ، بيروت : مكتبة خزعل ، ط 1 ، 1422 هـ / 2002 م ، ص 165 ، وذكرت فى قائمة المراجع (ص 864) أن الكتاب مخطوط محفوظ فى مكتبة خاصة ، ولم تبين اسم المكتبة . وانظر معلومات عن الكتاب فى : مؤلفات ابن عربى تاريخها وتصنيفها ، للدكتور عثمان يحيى ، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2001 م ، (ص 309-310) .
([20]) تنـزيه الاعتقاد ، ضمن الحاوى ، (2/129-130) .
([1]) المصدر السابق ، (2/134 – 135) ، باختصار وتصرف يسير .
([2]) انظر : مدارج السالكين شرح منازل السائرين ، (1/167) .
وللإمام ابن القيم كلام آخر نفيس فى المعنى نفسه فى كتابه البديع طريق الهجرتين يقول فيه (ص 56-57) : ((... تجريد الحب والإرادة عن الشوائب والعلل والحظوظ فيتوحد حبه كما توحد محبوبه ، ويتجرد عن مراده من محبوبه بمراد محبوبه منه ، بل يبقى مراد محبوبه هو من نفس مراده ، وهنا يعقل الاتحاد الصحيح ، وهو : اتحاد المراد ، فيكون عين مراد المحبوب هو عين مراد الحب ، وهذا هو غاية الموافقة وكمال العبودية ، ولا تتجرد المحبة عن العلل والحظوظ التى تفسدها إلا بهذا ، فالفرق بين محبة حظك ومرادك من المحبوب وأنك إنما تحبه لذلك وبين محبة مراد المحبوب منك ومحبتك له لذاته أنه أهل أن يحب ، وأما الاتحاد فى الإرادة فمحال كما أن الاتحاد فى المريد محال فالإرادتان متباينتان)) . ولاحظ أن هذا كلام للإمام ابن القيم ، وليس لابن عربى ، فمن أنكر لا يقرأ ، وإن قرأ لا يفقه {فَمَالِ هَؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} .
([3]) تنـزيه الاعتقاد ، مصدر سابق ، (2/136 – 137) .
([4]) الحاوى 2/234 – 269 .
([5]) الطبقات الصغرى (ص 16) .