بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله , بحمده تتم الصالحات وتفيض وبشكره تكثر النعم وتزيد , وبفضله تتنزل الرحمات على العبيد, الأمر أمره والملك ملكه , والحكم حكمه, والقضاء قضاؤه, والكل عباده, ولا يخرج شيء عن سلطانه
وأصلي واسلم على النبي الأكرم والرسول الأعظم , سيدي يا رسول الله يا خير من عرف الإله بفضله , يا بهجة الدنيا ونور خطاها, فبحقك تمتمت الحروف وسرها ولم يحصها غير الذي اوحاها , وبحق من ألقى الجبال رواسي, والأرض قدر قوتها ودحاها, ومن خلق النجوم وبدرها في قبة العلياء أنت ضياها , لو أن أرضا من ارض سمائنا فوق السماء السبع كنت أنت سماها
اللهم صلي عليه صلاة لم يصلها عليه أحد من قبل ولا يصليها عليه أحد من بعد , صلاة لا تحصى ولا تعد ولا تحد ولا يعلم قدرها ومقدارها وكيفتها إلا أنت وسلم تسليما كثيرا وعلى أهله وآله وأزواجه وذريته وأصحابه
وأرض عن ساداتنا من الأولياء والصالحين ومشايخنا الأحياء والمنتقلين
وأغفر لنا ولوالدينا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الزاهد المتوكل:
من أقواله رضي الله عنه:
« سلكت البادية إلى مكة سبعة عشر طريقاً، منها: طريقٌ من ذهب! وطريقٌ من فضّة».
« دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن الكريم بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرّع عند السّحَر
ومجالسة الصالحين».
« لا تتكلف ما كفيت، ولا تضيع ما استكفيت».
« من لم تبكِ الدنيا عليه لم تضحك الآخرة إليه، والإنسان فى خلقه أحسن منه فى جديد غيره، والهالك حقاً من
ضل فى آخر سفره وقد قارب المنزل».
« العالم ليس بكثرة الروايات، إنما العالم من اتبع العلم واستعمله، واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم«
سُئل: بماذا نلت هذه المنزلة؟ فقال: بخدمة الفقراء.
قيل له: حدثنا بأعجب ما رأيته من أسفار فقال: لقينى الخضر عليه السلام فسألنى الصحبة فخفت أن يفسد علىَّ توكلى بسكونى إليه ففارقته».
إنه العارف الولي إبراهيم الخواص.. شاعر الصوفية الزاهد المتوكل رضي الله عنه
هو أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل الخواص، أخذ عن أحمد المروانى أبى القاسم وصحب أبا عبدالله المغربى، ومن مريديه أبو المواهب عبدالوهاب بن أحمد بن على الحنفى الشعرانى وزين الدين القزوينى.
وسمى الخواص نسبة إلى الأخوص، وربما إحالة إلى عمله بصناعة الخوص.
ولد فى مدينة سامراء العراقية، وعرف بكثرة الحج إلى مكة، إذ قال: «سلكت البادية إلى مكة سبعة عشر طريقاً، منها: طريقٌ من ذهب! وطريقٌ من فضّة».
أحد كبار شعراء الصوفية، ممن أبدعوا قصائد تتهادى إلى الجميع من دون عنت ولا عناء.
فيها ما يخاطب الوجدان، بقدر ما تنطوى على أفكار يقبلها العقل، وإن كانت غالبيتها تدور حول الزهد.
وقد بلغ فى التصوّف شأناً إلى درجة أن كثيرين كانوا يعدّونه أحد أقران الجنيد والنورى، نظراً إلى ما كان له فى التوكّل والرياضة الروحية من حظ كبير، وهو ما يدل عليه قوله الأثير: «دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن الكريم بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرّع عند السّحَر، ومجالسة الصالحين».
شهد للخواص كثيرون، منهم ممشاذ الدينورى، الذى قال: كنت يوماً فى مسجدى بين النائم واليقظان، فسمعت هاتفاً يهتف: إن أردت أن تلقى وليًّا من الأولياء فامضى إلى تلّ التوبة, فقمت وخرجت، فإذا أنا بثلج عظيم، فذهبت إلى تلّ التوبة، فإذا إنسان قاعد مربع على رأس التلّ وحوله خالٍ من الثلج قدر موضع خيمةٍ، فتقدمت إليه، فإذا هو إبراهيم الخوّاص، فسلّمت عليه وجلست إليه، فقلت: بماذا نلت هذه المنزلة؟ فقال: بخدمة الفقراء.
وقال منصور بن الحربى: سمعت عمر بن سنان يقول: «اجتاز بنا إبراهيم الخواص، فقلنا له: حدثنا بأعجب ما رأيته من أسفار فقال: لقينى الخضر عليه السلام فسألنى الصحبة فخفت أن يفسد علىَّ توكلى بسكونى إليه ففارقته».
وقيل إن الخواص كان يحمل دوماً إبرة وخيوطاً وركوة ومقراضاً، فقيل له: يا أبا إسحاق لم تحمل هذا وأنت تمنع من كل شىء؟ فقال: مثل هذا لا ينقض التوكل لأن الله سبحانه وتعالى فرض علينا فرائض والفقير لا يكون عليه إلا ثوب واحد فربما يتخرق ثوبه فإذا لم يكن معه إبرة وخيوط تبدو عورته فتفسد عليه صلاته، وإذا لم يكن معه ركوة تفسد عليه طهارته، وإذا رأيت الفقير بلا ركوة ولا إبرة ولا خيوط فاتهمه فى صلاته.
ويروى أنه سمع ذات يوم صوت لهو ومجون وعبث ينبعث من أحد البيوت فهمّ بنصح أهله فتوجه إليه وإذا بكلب شرس يعترضه فعاد من حيث أتى وهو مطأطى الرأس ودخل المسجد وصلى ثم خرج وعاود المحاولة فلم يجد للكلب أثراً, فلما اقترب من باب البيت خرج إليه شاب مشرق الوجه مبتسماً وهو يرحب به معتذراً: لو أرسلت فى طلبى لأتيتك ولك علىّ عهد الله ألا أعود لما يزعجك أبداً ووفى الشاب بعهده.
ولما سئل إبراهيم: ما منعك من الدخول المرّة الأولى؟ قال: لو كانت نيتى فى المرة الأولى خالصة لما اعترضنى شىء فكان علىّ أن أصححها ففعلت واستغفرت ربى فوفّقت لما أريد.
وقال همّام بن الحارث: سمعت إبراهيم الخوّاص، يقول: ركبت البحر، وكان معى فى المركب رجلٌ يهودىٌّ فتأمّلته أياماً كثيرةً لا أراه يذوق شيئًا ولا يتحرّك ولا ينزعج من مكانه ولا يتطهّر ولا يشتغل بشىءٍ وهو ملتفٌّ بعباءٍ مطروحٌ فى زاويةٍ ولا يفاتح أحدًا ولا ينطق فسألته وكلّمته فوجدته مجرّدًا متوكّلاً يتكلّم فيه بأحسن كلامٍ ويأتى بأكمل بيانٍ، فلمّا أنس بى وسكن إلىّ قال لى: يا أبا إسحاق، إن كنت صادقًا فيما تدّعيه فالبحر بيننا حتّى نعبر إلى السّاحل وكنّا فى اللّجج فقلت فى نفسى: واذلاه إن تأخّرت عن هذا الكافر فقلت له: قم بنا فما كان بأسرع بأن زجّ بنفسه فى البحر ورميت بنفسى خلفه فعبرنا جميعًا إلى السّاحل فلمّا خرجنا قال: يا إبراهيم، نصطحب على شريطة ألا نؤوى المساجد ولا البيع ولا الكنائس ولا العمران فنعرف فقلت: لك ذلك حتّى أتينا مدينةً فأقمنا على مزبلةٍ ثلاثة أيامٍ فلمّا كان يوم الثّالث أتاه كلبٌ فى فمه رغيفان فطرحهما بين يديه وانصرف فأكل ولم يقل لى شيئًا ثمّ أتانى شابٌّ ظريفٌ نظيفٌ حسن الوجه والبزّة طيب الرّائحة ومعه طعامٌ نظيفٌ فى منديلٍ فوضعه بين يدىّ وقال لى: كل وغاب عنّى فلم أر له أثرًا فقلت لليهودىّ: هلمّ، فلم يفعل ثمّ أسلم وقال لى: يا إبراهيم، أصلنا صحيحٌ إلا أنّ الّذى لكم أحسن وأصلح وأظرف، وحسن إسلامه وصار أحد أصحابنا المتحقّقين بالتّصوّف.
وكان العلم والمعرفة من القضايا الرئيسة التى شغلت الخواص، وكانت له فيها أقوال مأثورة.
وقد عرف العلم تعريفاً مختلفاً ولافتاً فى أن، إذ لخّصه كله فى كلمتين: «لا تتكلف ما كفيت، ولا تضيع ما استكفيت». واعتبر أن «العالم ليس بكثرة الروايات، إنما العالم من اتبع العلم واستعمله، واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم». وكان يقول: «علم العبد بقرب قيام اللّه على العبد يوحشه من الخلق ويقيم له شاهد الأنس باللّه، وعلم العبد بأنّ الخلق مسلّطون مأمورون يزيل عنه خوفهم ويقيم فى قلبه خوف المسلّط لهم». وفى هذا مدح الخواص أربعة هم: عالمٌ مستعملٌ لعلمه، وعارفٌ ينطق عن حقيقة فعله، ورجلٌ قائمٌ للّه بلا سببٍ، ومريدٌ ذاهبٌ عن الطّمع. وكان يقول: «لا يحسن هذا العلم إلا لمن يعبر عن وجده وينطق به فعله».
وبالطبع كان الخواص يتحدث فى الغالب الأعم عن المعرفة الحدسية، وهو مما يدل عليه قوله: «علامة حقيقة المعرفة بالقلب خلع الحول والقوّة وترك التّملّك مع اللّه فى شىءٍ من ملكه، ودوام حضور القلب بالحياء من اللّه، وشدّة انكسار القلب من هيبة اللّه، فهذه الأحوال دلائل المعارف والحقيقة فمن لم يكن على هذه الأحوال فإنّما هو على الأسماء والصّفات».
كان «التوكل» القيمة الرئيسة الكامنة فى أقوال الخواص وأفعاله.
وقد حصلت له حوادث علمته أن يتوكل على الله، فقد روى عنه أنه قال: لقيت غلاماً فى التيه كأنه سبيكة فضة
فقلت: إلى أين يا غلام؟ فقال: إلى مكة حرسها الله، فقلت: هل تسير بلا زاد ولا راحلة ولا نفقة؟
فقال لى: يا ضعيف اليقين، الذى يقدر على حفظ السموات والأرض، ألا يقدر أن يوصلنى إلى مكة المكرمة بلا علاقة؟ قال: فلما دخلت مكة المكرمة حرسها الله فإذا أنا به فى الطواف.
وثمة حكاية أخرى تسند هذا المسار، تروى عن الخواص، إذ قال: طلبت المعاش لأكل الحلال، فاصطدت السمك وذات يوم وقعت فى الشبكة سمكة فأخرجتها وطرحت الشبكة فى الماء فوقعت فيها سمكة أخرى فرميت بها ثم عدت فهتف بى هاتف: لم تجد معاشاً إلا أن تأتى من يذكرنا فتقتلهم ، قال: فكسرت القصبة وتركت الصيد.
وفى التوكل كان الخواص رضي الله عنه يقول: «العارف باللّه يحمله اللّه بمعرفته، وسائر النّاس تحملهم بطونهم ومن نظر الأشياء بعين الفناء كانت راحته فى مفارقتها، ولم يأخذ منها إلا لوقته».
وكان يقول رضي الله عنه أيضاً: «الرّزق ليس فيه توكّلٌ إنّما فيه صبرٌ حتّى يأتى اللّه به فى وقته الّذى وعد وإنّما يقوى صبر العبد على قدر معرفته بما صبر له أو لمن صبر عليه، والصّبر ينال بالمعرفة وعلى الصّابر حمل مؤونة الصّبر حتّى يستحقّ ثواب الصّابرين، لأنّ اللّه تعالى جعل الجزاء بعد الصّبر قال اللّه تعالى: «وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ قال إنّى جاعلك للنّاس إمامًا». فالجزاء إنّما وقع له عليه السّلام بعدما أتمّ حمل البلوى.
وقال كذلك: «من صح توكله فى نفسه صح توكله فى غيره».
كان الخواص رضي الله عنه ينظر إلى «التّوكّل» بوصفه قيمة مركبة، تقوم على ثلاث درجاتٍ هى: الصّبر والرّضا والمحبّة، لأنّه إذا توكّل وجب عليه أن يصبر على توكّله بتوكّله لمن توكّل عليه وإذا صبر وجب عليه أن يرضى بجميع ما حكم عليه وإذا رضى وجب عليه أن يكون محبًّا لكلّ ما فعل به موافقةً له.
سئل الخواص رضي الله عنه ذات يوم عن التوكل فأطرق ساعة ثم قال: إذا كان المعطى هو المانع فمن يعطى، وراح يتلو الآية الكريمة التى يقول فيها رب العزة سبحانه وتعالى:« وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ »الشعراء 217- 219, ثم قال: ما ينبغى للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله ومن تعلق بغير الله أو سكن إلى علمه وعقله ودوائه وتمائمه واعتمد على حوله وقوته وكله الله إلى ذلك وخذله.
وقال الحسين بن منصور لإبراهيم الخواص: ماذا صنعت فى هذه الأصفار وقطع هذه القفار؟ قال: بقيت فى التوكل أصحح نفسى عليه. فقال الحسين: أفنيت عمرك فى عمران باطنك فأين الفناء فى التوحيد.
عنى الخواصرضي الله عنه بتربية المريدين، وكانت لديه تقوم على الإخلاص وصفاء القلب.
وكان من عادته رضي الله عنه أن يخوض مع المريد فى كل رياضة كان يأمره بها كيلا يخطر بباله أن الشيخ يأمره بما لم يفعل فينفره ذلك من رياضته.
اعتبر الخواص رضي الله عنه أن الحركة للمريدين طهارةٌ ولسائر النّاس إباحةٌ وللمخصوصين عقوبةٌ لهم إذا مالوا إلى ما فيه الحظّ لأنفسهم لأنّ الأسباب إنّما تبطى على العارفين وتمتنع عن الحركة إليهم لما فيهم من الحركة إليها فإذا فنيت آثارها تحرّكت إليهم وأقبل الملك بكلّيّته عليهم، وكفى بالثّقة باللّه مع صدق الانقطاع إليه حياطةً من العبد لنفسه وأهله وولده، وكلّ مريدٍ يتوجّه إلى اللّه وهموم الأرزاق قائمةٌ فى قلبه فإنّه لا يفلح ولا ينفذ فى توجّهه.
ركز الخواص رضي الله عنه أكثر على أهمية الفقر فى هذه التربية.
وكان يعرف الفقر بأنه «ترك الشكوى، وإظهار أثر البلوى». وكان الفقر لديه يقى النفس من كثرة الوساوس.
والفقير لديه هو من ضعّف بدنه لكن قويت معرفته وصح توكله، والفقير «يعمل على إدراك حقيقة الإيمان وبلوغ ذروته، أما الغنىّ فيعمل على نقصانٍ فى إيمانه وضعفٍ من معرفته،والفقير يفتخر باللّه عزّ وجلّ ويصول به, والغنىّ يفتخر بالمال ويصول بالدّنيا ,والفقير يذهب حيث شاء، والغنىّ مقىّدٌ مع ماله، والفقير يكره إقبال الدّنيا، والغنىّ يحبّ إقبالها، والفقير فوق ما يقول والغنىّ دون ما يقول، والنّاس رجلان رجلٌ وعبدٌ، فالرّجل مهمومٌ بتدبير نفسه متعوبٌ بالسّعى فى مصلحته والعبد طرح نفسه فى ظلّ الربوبية وكان من حيث العبودّة وعلى قدر حسن قبول العبد عن اللّه تكون معونة اللّه له، والمتوكّلون الواثقون بضمانه غابوا عن الأوهام وعيون النّاظرين، فعظم خطر ما أوصلهم إليه وجلّ قدر ما حملهم عليه وعظمت منزلتهم لديه، فيا طيب عيشٍ لو عقل، ويا لذّة وصلٍ لو كشف، ويا رفعة قدرٍ لو وصف».
عدد الخواص رضي الله عنه فى تبيان صفات الفقراء، وهى أنّهم كانوا بوعد اللّه مطمئنّين، من الخلق آيسين، عداوتهم للشّياطين كانوا من حيث الحقّ فى الأشياء خارجين، وكانوا على الخلق مشفقين، وكانوا لأذى النّاس محتملين، وكانوا لمواضع العداوة لا يدعون النّصيحة لجميع المسلمين،وكانوا فى مواطن الحقّ متواضعين،وكانوا بمعرفة اللّه مشتغلين،وكانوا الدّهر على طهارةٍ، كان الفقر رأس مالهم ، وكانوا فى الرّضا فيما قلّ أو كثر وأحبّوا أو كرهوا عن اللّه واحدًا.
والفقير لدى الخواص، هو من كانت أوقاته مستويةً فى الانبساط لفقره، صائنًا له محتاطًا لا تظهر عليه فاقةٌ، ولا تبدو منه حاجةٌ، أقلّ أخلاقه الصّبر والقناعة راحته فى القلّة، وتعذيبه فى الكثرة، مستوحشٌ من الرّفاهات متنعّمٌ بالخشونات، فهو بضدّ ما فيه الخليقة يرى ما هو عليه معتمده، وإليه مستراحه ليس له وقتٌ معلومٌ، ولا سببٌ معروفٌ فلا تراه إلا مسرورًا بفقره فرحًا بضرّه مؤنته على نفسه ثقيلةٌ وعلى غيره خفيفةٌ، يعزّ الفقر ويعظّمه ويخفيه بجهده ويكتمه حتّى عن أشكاله يستره، قد عظمت من اللّه تعالى عليه فيه المنّة وجلّ قدرها فى قلبه من نعمةٍ فليس يريد بما اختار اللّه له بدلا ولا يبغى عنه حولا.
قال الخواص رضي الله عنه : «لا يصحّ الفقر للفقير حتّى تكون فيه خصلتان هما: الثّقة باللّه، والشّكر للّه فيما زوى عنه ممّا ابتلى به غيره من الدّنيا. ولا يكمل الفقير حتّى يكون نظر اللّه له فى المنع أفضل من نظره له فى العطاء، وعلامة صدقه فى ذلك أن يجد للمنع من الحلاوة ما لا يجد للعطاء، لا يعرفه غير بارئه الّذى خصّه بمعرفته وأياديه فهو لا يرى سوى مليكه ولا يملك إلا ما كان من تمليكه فكلّ شىءٍ له تابعٌ وكلّ شىءٍ له خاضعٌ».
حضّ الخواص رضي الله عنه على الصبر، ورآه الثبات مع الله سبحانه وتعالى وتلقى بلائه بالرحب والدعة.
وفى هذا قال: «من لم يصبر لم يظفر وإنّ لإبليس وثاقين ما أوثق بنو آدم بأوثق منهما: خوف الفقر والطّمع».
وكان ينشد فى هذا:
صبرت على بعض الأذى خوف كله
ودافعت عن نفسى لنفسى فعزت
وجرعتها المكروه حتى تدربت
ولو جرعته جملة لاشمأزت
ألا رب ذل ساق للنفس عزة
ويارب نفس بالتذلل عزت
إذا ما مددت الكف
ألتمس الغنى
إلى غير من قال: «اسألونى» فشُلَّت سأصبر جهدى إن فى الصبر عزة
وأرضى بدنيائى، وإن هى قلت
وكان الخواص يردف الصبر بالشكر، فها هو ينشد قائلاً:
أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر
أنا جائع أنا ضائع أنا عارىٍ
هى ستة أنا الضمين لنصفها
فكن الضمين لنصفها يا بارى
مدحى لغيرك لهب نار خضتها
فأجر عبيدك من لهب النار.
وإلى جانب التوكل والصبر عاش الخواص أحوال المتصوفة الأخرى، ومنها الزهد، والمراقبة، والمحبة، والصمت والجوع، وله فى هذا أقوال معروفة.
ففى الزهد قال: «من لم تبكِ الدنيا عليه لم تضحك الآخرة إليه، والإنسان فى خلقه أحسن منه فى جديد غيره، والهالك حقاً من ضل فى آخر سفره وقد قارب المنزل».
أما المراقبة فهى لديه: «خلوص السرّ والعلانية لله عزّ وجل من الداخل ومن الخارج.
والمحبة هى محو الإرادات وإحراق جميع الصفات والحاجات وإغراق نفسه فى بحر الإشارات».
وكان يقول: «إن الله يحب ثلاثاً ويبغض ثلاثاً، فأما ما يحب: فقلة الكلام وقلة النوم وقلة الأكل، وأما ما يبغض: فكثرة الكلام وكثرة الأكل وكثرة النوم».
كذلك أوضح: «من أراد اللّه للّه بدّل له نفسه، وأدناه من قربه. ومن أراده لنفسه أشبعه من جنانه، وارواه من رضوانه». وكان ينشد:
عليلٌ ليس يبرئه الدّواء طويل
الضر يفنيه الشفاء
سرائره بوادٍ ليس تبدو
خفىّ اتٌ إذا برح الخفاء
وقيل إن «الخواص رضي الله عنه» كان فى أيامه الأخيرة يرفع أكفه بالضراعة لله تعالى، ويقول باكياً: «يا رب كبرت وقد ضعف جسمى وقلت عبادتى فأعتقنى بفضلك من النار فإنى لا أقدر على أن أمكث فيها لحظة».
مرض «الخواصرضي الله عنه »، وذات مرة كان يقوم إلى الماء ليتوضأ ويعود إلى المسجد ليصلى ركعتين، وكرر هذا مرات، وفى إحداها فاضت روحه، سنة ٢٩١ هـ، ودفن فى بغداد، داخل ضريح الجنيد، كما تقول بعض الروايات.
رضي الله عنه وعن سائر الأولياء والصالحين ومشايخنا الأحياء والمنتقلين
وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين سيدنا محمد رسول الله وعلى أهله وآله وأزواجه وذريته وأصحابه