حقائق عن قضية فلسطين للحاج أمين الحسيني رحمه الله
"كذبة بيع الفلسطينيين لأرضهم "
الفلسطينيون لم يفرطوا في وطنهم وقد دافعوا عنه أشرف دفاع
الأعداء يذيعون دعايات كاذبة وأراجيف مضللة ضد الفلسطينيين
اتهم بعض الناس أهل فلسطين بالتفريط في حقوق وطنهم . وتتلخص التهم المعزوّة إليهم في ثلاثة أمور :
أ- إن كثيرا منهم باعوا أراضيهم لليهود، وأن بعض البائعين استصدر عفوا من بعض المنظمات الوطنية لقاء دفع مبلغ من المال؟
ب- إن عرب فلسطين لم يدافعوا عن وطنهم أثناء حرب فلسطين، وخلال عهد الانتداب البريطاني؟
ج- إن أهل فلسطين كانوا يشتغلون لحساب اليهود ويبيعون ضباط وجنود الجيوش العربية للصهيونيين .
فماذا تقولون في ذلك ؟
الجواب :
قبل الإجابة على أسئلتكم لابد لي من مقدمة وجيزة تساعد على توضيح الأوضاع الحقيقية .
كانت فلسطين قبل حرب عام 1914جزءاً من الدولة العثمانية .
وهي رقعة صغيرة من الأرض مساحتها نحو ستة وعشرين ألف كيلومتر مربع، فلما انهارت هذه الدولة في نهاية الحرب العالمية الأولى وقعت فلسطين بين مخالب الاستعمار البريطاني من ناحية وجشع اليهودية العالمية من ناحية أخرى، وجعلت تتخبط بين هاتين القوتين العظيمتين وليس لها أي ساعد أو نصير، ولم يكن لدى أهلها من وسائل المقاومة والدفاع ما يستطيعون به دفع أذى أو رد عادية.
وبالرغم من ذلك قامت جماعة من أبناء فلسطين المخلصين، يبذلون جهودهم الضئيلة، وينظمون صفوفهم القليلة، ويؤلفون جبهة متواضعة أمام تلك القوى الدولية العاتية، وكان سلاحهم الوحيد الإيمان والإخلاص .
وبالرغم من عدم التكافؤ بين القوتين والجبهتين، فقد نشبت معركة هائلة طويلة المدى لم تلن فيها لعرب فلسطين قناة ولم تهن لهم عزيمة في كل أدوار الكفاح والنضال، مدة ثلاثين عاماً حاول خلالها الاستعمار البريطاني – متآمراً مع اليهودية العالمية – بلوغ أغراضه ومقاصده في فلسطين بالوسائل الآتية :
من الناحية السياسية :
أ- لقد حاولوا بادئ ذي بدء أن يحمّلوا عرب فلسطين على الرضوخ والإذعان لخطتهم الغاشمة، والموافقة على سياسة إنشاء الوطن القومي اليهودي، فتوسلوا بجميع وسائل الإغراء السياسية والمالية، وأساليب الدهاء والخداع، والوعد والوعيد، لحملهم على الموافقة، وليتخذوا من موافقتهم حجة يبررون بها أمام العالم جريمتهم الفظيعة في تحويل هذه البلاد العربية المقدسة إلى وطن يهودي بعد إجلاء أهلها عنها، ويكسبون جريمتهم المنكرة صفة شرعية، ولكنهم فشلوا في هذه المحاولة فشلاً تاماً .
من ناحية امتلاك الأراضي :
ب- فلما سقط في أيديهم جعلوا أكبر همهم اشتراء أرض فلسطين بالمال وامتلاك البلاد عملياً بهذه الوسيلة، فألقوا بمئات الملايين من لجنيهات، فارتفعت أسعار الأرض إلى عشرات الأضعاف، بل إلى مئاتها في بعض الأحيان . ولكن عرب فلسطين صمدوا أمام هذه التجربة أيضاً. مستهينين بالمال الذي لم يستطع أعداؤهم إغراءهم به، واحتفظوا بأراضيهم بوسائل سيأتي ذكر بعضها عند الجواب على سؤالكم الخاص بهذا الموضوع. وقد انتهى الانتداب البريطاني في 15 مايو 1948 ولم يستطع اليهود بالرغم مما حصلوا عليه من مساعدات وهبات وتسهيلات من حكومة الانتداب البريطاني أن يمتلكوا إلا نحو سبعة في المائة من مجموع أراضي فلسطين. وكانت خيبة آمالهم في هذه الناحية لا تقل عن فشلهم في محاولتهم الأولى السياسية .
من الناحية العسكرية :
ج- ما انفك الإنجليز – منذ احتلالهم لفلسطين – يساعدون اليهود بمختلف الوسائل على التسلح والتدرب والتنظيم العسكري، في الحين الذي كانوا يحرمون فيه جميع ذلك على عرب فلسطين، بل يحكمون بالإعدام على من يحوز أي نوع من السلاح أو العتاد، حتى أن وزير المستعمرات البريطانية مستر كريتش جونز اعترف في تصريح له في مجلس العموم البريطاني أن الذين حكمت عليهم المحاكم العسكرية البريطانية بالإعدام شنقاً من العرب لحيازتهم أسلحة أو ذخيرة كانوا (148) شخصاً" . هذا عدا بضعة ألوف فتك فيهم الإنجليز خلال ثورات 1936– 1939.
فلما اشتد ساعد اليهود بالسلاح والتدريب والتعضيد البريطاني، قاموا بمحاولتهم الثالثة وهي الوصول إلى أهدافهم عن طريق القوة وظهرت هذه المحاولة بجلاء في اعتداءات اليهود عام 1929 و1936 و1947 وغيرها . ولكن عرب فلسطين على قلة وسائلهم صدوهم ببسالة وهزموهم شر هزيمة في جميع المعارك رغم مساعدة الإنجليز لهم وحشدهم القوات العسكرية البريطانية بقيادة مشاهير قوادهم كالجنرال دل والمارشال ويفل وغيرهما لخضد شوكة عرب فلسطين. ولما سقط في أيدي الإنجليز واليهود معا ويئسوا من ترويض عرب فلسطين وإخضاعهم بالوسائل آنفة الذكر، عمدوا إلى أساليب أخرى كان سلاحهم فيها الخداع والدهاء، وقد سخروا فيها أنصارهم وأذنابهم خارج فلسطين لتنفيذ خططهم الخطيرة بوسائلهم الشيطانية، مما أدى إلى وقوع كارثة فلسطين . وستجدون إيضاح ذلك في الأجوبة على أسئلتكم .
الفلسطينيون لم يفرطوا في أراضيهم:
1- لا صحة لهذه التهم التي يروجها الأعداء من يهود ومستعمرين فإن العطف الذي بدأ من مصر وسائر الأقطار العربية على قضية فلسطين والحماسة الشديدة لها، والتنادي لنصرتها والاستماتة في سبيل الذود عنها، أقلق هؤلاء الأعداء، فشرعوا ينشرون الأراجيف ويذيعون الإشاعات الباطلة عن أهل فلسطين، ويرونهم بمختلف التهم، تشويها لسمعتهم وتنفيراً لإخوانهم العرب منهم، وصرفاً لهم عن مناصرتهم. وكانت التهمة الأولى أن أهل فلسطين باعوا أراضيهم وتمتعوا بأثمانها ثم جاءوا اليوم يدعون ويلا وثبورا، فهم أحق باللوم لما فرطوا في أوطانهم.
والحقيقة تخالف ذلك كل المخالفة، فإن الفلسطينيين قد حرصوا على أراضيهم كل الحرص، وحافظوا عليها رغم الإغراءات المالية الخطيرة من قبل اليهود، ورغم الضغط الاقتصادي عليهم بمختلف الوسائل من قبل الإنجليز. ومنذ تأسس المجلس الإسلامي الأعلى الذي انتخبه الفلسطينيون لإدارة المحاكم الشرعية والأوقاف والشؤون الإسلامية في فلسطين عام 1922 قام بأعمال عظيمة لصيانة الأراضي من الغزو اليهودي. فمنع بواسطة المحاكم الشرعية التي كان يشرف عليها بيع أو قسمة أي أرض كان للقاصرين نصيب فيها، وكذلك اشترى المجلس من أموال الأوقاف الإسلامية كثيراً من الأراضي التي كانت عرضة للبيع، وأقرض كثيرين من أصحاب الأراضي المحتاجين قروضاً من صناديق الأيتام ليصرفهم عن البيع. وكان يعقد مؤتمراً سنوياً من العلماء ورجال الدين لتنظيم وسائل المقاومة لليهود الطامعين في الأراضي، وقد تعرضت أنا شخصياً لحملات شديدة من الإنجليز واليهود عندما كنت رئيساً لهذا المجلس بسبب ما كان يقوم به من نشاط في منع بيع الأراضي لليهود.
وقد بذل المجلس الإسلامي الأعلى مبالغ طائلة في سبيل إنقاذ الأراضي، واشترى بعض القرى برمتها، كقرية دير عمرو وقرية زيتا التي بذل في سبيل إنقاذها وحدها نحو 54000 جنيه، وكالأراضي المشاعة في قرى الطيبة وعتيل والطيرة، وبذل جهوداً عظيمة وأقام قضايا في المحاكم في هذه السبيل، ووفق في إقناع كثير من القرى ببيع أراضيها إلى المجلس الإسلامي الأعلى، وجعلها وقفاً على أهلها .
وكذلك قام بعض المؤسسات والمنظمات العربية كصندوق الأمة الذي بذل جهداً كبيراً في سبيل إنقاذ كثير من أراضي البلاد اشترى بعضها بالمال وأنقذ بعضها بإجراءات إدارية وقضائية كأراضي البطيحة لعرقلة البيع وحماية حقوق المزارعين، وبعقد الاجتماعات وتوزيع النشرات .
ومما يزيد ذلك أن تقارير حكومة الانتداب البريطاني التي كانت ترفع سنوياً إلى لجنة الانتداب في عصبة الأمم بجنيف كانت تذكر دائماً أن السبب في قلة انتقال الأراضي إلى اليهود هو المجلس الإسلامي الأعلى وغيره من المؤسسات العربية .
وتدل الإحصاءات الرسمية على أن مساحة أراضي فلسطين هي نحو سبعة وعشرين مليون دونم (والدونم ألف متر مربع) . ويبلغ مجموع ما استولى عليه اليهود إلى يوم انتهاء الانتداب البريطاني في 15 مايو 1948، نحو مليوني دونم أي نحو سبعة في المائة من مجموع أراضي فلسطين، على أن ما تسرب من أيدي عرب فلسطين من هذين المليونين لا يزيد عن 250.000 (مائتين وخمسين ألف دونم) أي الثمن، وكان وقوع الكثير منها في ظروف قاهرة، وبعضها ذهب نتيجة لنزع ملكية الأراضي العربية، وهو ما كانت تقوم به حكومة الانتداب البريطاني لصالح اليهود وفقاً للمادة الثانية من صك الانتداب أما باقي المليونين فقد تسرب إلى أيدي اليهود كما يلي :
650.000 دونم استولى عليها اليهود في عهد الحكومة العثمانية خلال حقبة طويلة، من الأراضي الأميرية بحجة إنعاش الزراعة وإنشاء مدارس زراعية .
300.000 دونم منحتها حكومة الانتداب البريطانية لليهود دون مقابل (وهي من أملاك الدولة)
200.000 دونم منحتها حكومة الانتداب البريطانية لليهود لقاء أجرة اسمية (وهي من أملاك الدولة) .
600.000 دونم اشتراها اليهود من بعض اللبنانيين والسوريين الذين كانوا يملكون أراضي في فلسطين (كمرج ابن عامر ووادي الحوارث، والحولة وغيرها) .
1.750.000
يتبين من ذلك أن نحو سبعة أثمان ما استولى عليه اليهود من الأراضي إنما تسرب إليهم عن غير طريق الفلسطينيين ، وأن ما تسرب من الفلسطينيين هو مائتان وخمسون ألف دونم أي نحو "62" ألف فدان مصري . على أن الكثير ممن باعوا أراضيهم أو كانوا سماسرة للبيع قد فتك فيهم الشعب الفلسطيني، ولم ينج منهم إلا من فر من البلاد ولجأ إلى أقطار أخرى .
أما ما ذكرتم من إصدار العفو عمن كان يدفع مبلغاً من المال، فلا صحة له البتة، ولم يقع أي حادث من هذا القبيل، بل كان الأمر على العكس، فإن مؤتمرات العلماء التي كنا نعقدها سنوياً وكذلك الهيئات الدينية ، كانت تصدر الفتاوى بتكفير من يبيع الأرض أو يسمسر على بيعها، وتعتبره مرتداً لا يدفن في مقابر المسلمين وتجب مقاطعته وعدم التعامل معه، وقد أصدر مؤتمر كهنة الأرثوذكس العرب في فلسطين قرارات مماثلة .
دفاع الفلسطينيين عن بلادهم :
2- وكانت التهمة الثانية أن عرب فلسطين لم يدافعوا عن بلادهم وهي فرية لا ظل لها من الحقيقة، فالناس جميعاً يعلمون كيف كافح أهل فلسطين، اليهود والإنجليز معاً، مدة ثلاثين عاماً لم يقهروا خلالها أبداً ، رغم كثرة القوات البريطانية وقوات الشرطة المحتلة وقوى اليهود المنظمة . وليس يخاف على أحد استبسال المجاهدين الفلسطينيين في الذود عن وطنهم وإقدامهم على التضحية وبيعهم نفوسهم بيع السماح في سبيل الله، حتى شهد لهم بذلك العدو والصديق، ورفعوا بجهادهم اسم العرب عالياً في العالم . فمن ذلك ما ذكره المرحوم محمد رستم حيدر وزير مالية العراق الأسبق لبعض زائريه في لبنان عندما كان راجعاً من أوربا صيف 1939 بقوله : لقد كنا في زياراتنا الماضية لأوربا نتحاشى التظاهر بأننا عرب . ولكننا هذه المرة، بعد جهاد عرب فلسطين وبطولتهم التي طبق ذكرها آفاق أوربا، أصبحنا نفخر بعروبتنا وصرنا نلقى من الأوربيين كل إجلال واحترام .
هتلر يستشهد بجهاد عرب فلسطين :
ومن ذلك ما قاله هتلر للسيد خالد القرقني مستشار المرحوم جلالة الملك عبد العزيز آل سعود في مقابلة رسمية له عام 1938 من أنه معجب كل الإعجاب بكفاح عرب فلسطين وبسالتهم . وكذلك جاء في بيان رسمي وجهه هتلر إلى الألمان في السوديت حينما كانوا يحاولون الخلاص من حكم تشيكوسلوفاكيا عام 1938 والانضمام إلى ألمانيا ما معناه: "اتخذوا يا ألمان السوديت من عرب فلسطين قدوة لكم إنهم يكافحون إنجلترا أكبر إمبراطورية في العالم، واليهودية العالمية معاً، ببسالة خارقة، وليس لهم في الدنيا نصير أو مساعد، أما أنتم فإني أمدكم بالمال والسلاح، وإن ألمانيا كلها من ورائكم" .
ما كتبه الجنرال ولسون عن مجاهدي فلسطين :
وقد جاء في كتاب ألفه الجنرال هنري ميتلاند ولسون الذي اشترك في المعارك ضد عرب فلسطين قبل أن يتولى قيادة القوات البريطانية في مصر ثم في منطقة البحر الأبيض المتوسط. ذكر مستفيض لبطولة عرب فلسطين خلال المعارك الدامية التي جاهدوا فيها القوات البريطانية إذ ذكر ما خلاصته :
"إن خمسمائة من ثوار عرب فلسطين يعتصمون في الجبال ويقومون بحرب العصابات، لا يمكن التغلب عليهم بأقل من فرقة بريطانية كاملة السلاح (أي خمسة عشر ألف جندي) .
الفلسطينيون في غزة يهزمون الإنجليز :
وفي الحرب العالمية الأولى عندما صمد لواء واحد من الجيش العثماني مؤلف من أقل من ثلاثة آلاف جندي فلسطيني في وجه فرقتين بريطانيتين أمام غزة وكبدهما خسائر فادحة وأرغمهما على التقهقر حتى العريش عام 1917م ، أصدر أحمد جمال باشا القائد التركي الذي اشتهر بخصومته للعرب، بياناً رسمياً أشاد فيه بالشجاعة الفذة التي أبداها أولئك الجنود الفلسطينيون في غزة أمام أضعاف أضعافهم من جنود الأعداء، وأنها بسالة خارقة تذكر بالشجاعة التي أبداها آباؤهم من قبل عندما حموا هذه البقاع المقدسة بقيادة صلاح الدين الأيوبي ... وكذلك اعترف كثيرون من أقطاب العرب وزعمائهم بشجاعة الفلسطينيين . ومبلغ ما بذلوه من جهود ودماء، ذوداً عن حياتهم أثناء المعارك الأخيرة التي وقعت عامي 1947 و1948م.
وإني لآسف إذا اضطر للاستشهاد بمثل هذه الأقوال والتصريحات بالثناء على أهل فلسطين في مجال الدفاع عنهم ببيان الحقائق التي حاولت الدعايات الأجنبية ودوائر المخابرات البريطانية واليهودية أن تطمسها بما سخرت لذلك من الصحف المأجورة والألسنة الخراصة لتشويه سمعة الفلسطينيين وإظهارهم على غير حقيقتهم .
براعة الفلسطينيين في حرب العصابات :
ولاشك أن كل منصف يعترف بأن مجاهدي فلسطين لم يغلبوا على أمرهم ولم يقهروا في ميدان الكفاح حينما كانوا يحاربون اليهود والإنجليز معاً حرب العصابات التي خذقوها، والتي هي أجدى وأنجع في مكافحة الجيوش النظامية، وأعظم أثراً، وأقل نفقة . وبحرب العصابات القائمة على أسس التضحية والاستماتة والبسالة استطاع الفلسطينيون أن يفضوا مضاجع أعدائهم أمداً طويلاً، وأن ينزلوا بهم الخسائر الفادحة، واستطاعت حركة الجهاد الفلسطيني في أعوام 36،37،38، 1939م أن تسيطر على معظم الأراضي الفلسطينية بل عليها كلها إذا استثنينا قليلاً من المدن التي انحصر الجنود الإنجليز داخلها وقتاً غير قليل في انتظار النجدات .
الإنجليز يسلحون اليهود ويدربونهم :
وفي الحوادث الأخيرة ظن الإنجليز الذين جردوا أهل فلسطين خلال الحرب العالمية الثانية من أسلحتهم ، وشردوا قادتهم وسجنوا الألوف من مجاهديهم وأرهقوهم ظلماً وعدواناً كما يفعلون اليوم في المكافحين من رجال ماو ماو في الوقت الذي كانوا يسلحون فيه اليهود ويدربونهم وينظمونهم ويساعدونهم بواسطة هيئة عسكرية إنجليزية كان يرأسها القائد (وينجت) المعروف – ظن الإنجليز أن كفة اليهود الحربية أصبحت راجحة ، وأن في استطاعتهم أن يتسلموا فلسطين حسب وعد بريطانيا القديم لهم ، فأعلنت بريطانيا أنها ستنسحب من فلسطين. ولكن أهل فلسطين رغم ضعف وسائلهم عامي 1947- 1948م قاموا بكفاح شديد أرغموا به يهود القدس، وعددهم نحو (115) ألفاً، على رفع رايات التسليم، بعد أن أرهقوهم وحاصروهم وقطعوا عنهم الماء والزاد والعتاد . وقد توسطت الهيئة الدبلوماسية في القدس حينئذ وجاءت بعثة من بعض أعضائها إلى دمشق في مارس سنة 1948م لمفاوضة الجامعة العربية والهيئة العربية العليا في هذا الأمر .
تفوق العرب في المعارك على اليهود :
وفي غضون ذلك كانت المعارك الكبيرة ناشبة بين العرب واليهود ففي مكان يعرف بالدهيشة، بين القدس والخليل، نشبت معركة كبيرة في 17 مارس سنة 1948 قتل فيها بضع مئات من اليهود ووقع منهم (350) أسيراً ، وغنم المجاهدون أسلحتهم وذخائرهم ونحو مائة وخمسين سيارة كان قسم كبير منها من المصفحات والمدرعات . ووقعت معارك صور يف وبيت سوريك وسلة ويافا ومعارك أخرى في المنطقة الشمالية قهرت فيها العصابات الفلسطينية اليهود وهزمتهم .
ولما شرع اليهود في استعمال المتفجرات وعمدوا إلى النسف، قابلهم المجاهدون بما هو أدهى وأمر، فنسفوا عمارة الستين بوست والوكالة اليهودية وشارع بن يهودا برمته ومحلة المنتفيوري وغيرها مما قصم ظهر اليهود، وجعلهم يطالبون بالعدول عن حرب المتفجرات .
وقد أبدى المجاهدون الفلسطينيون من البسالة والتصميم والتضحية ما ضمن لهم التفوق ورجوح الكفة على اليهود، حتى أن الولايات المتحدة الأمريكية أعلنت بواسطة مندوبها في الأمم المتحدة في 23 مارس 1948م عدولها عن تأييد قرار تقسيم فلسطين، (وقد وقعت جميع هذه الحوادث قبل أن تدخل الجيوش العربية فلسطين) .
12 ألف شهيد فلسطيني :
وقد بلغ عدد الذين استشهدوا م أهل فلسطين في ميادين الجهاد نحو 12 ألف شهيد، وبلغ عدد من أصيب منهم بجراحات وعاهات دائمة ضعف هذا العدد، وهذا بالإضافة إلى ألوف من السكان المدنيين ولاسيما من الشيوخ والنساء والأطفال الذين قتلهم اليهود والمستعمرون، كما أن خسائرهم المادية إلى ما قبل نشوب الحرب العالمية الثانية تقدر بعشرات الملايين من الجنيهات، فإن السلطات البريطانية نسفت أقساماً برمتها من مدن يافا واللد وجنين وعشرات من القرى العربية وأتلفت من روعات أهلها ومواشيهم وممتلكاتهم .
المؤامرة الإنجليزية لإبعاد الفلسطينيين عن ميدان القتال :
ولما رأي الإنجليز واليهود هذا الجد والتصميم والاستماتة من عرب فلسطين، وأن حرب العصابات تزداد توسعاً واندلاعاً، وأن أمدها سيطول، وستكون لها نتائج خطيرة في إثارة الشرق العربي والعالم الإسلامي، لجأوا إلى الحيلة لوقف حرب العصابات وإبعاد المجاهدين الفلسطينيين عن ميدان المعركة، لأنهم بطبيعة الحال أشد العناصر العربية تصميماً على القتال، واستماتة في الذود عن وطنهم وأنفسهم وممتلكاتهم، فعمد الإنجليز إلى تعديل خطة الدول العربية التي كانت قررت في اجتماع "عالية – لبنان" في السابع من أكتوبر عام 1948م أن يكون المعول في حرب فلسطين على أبنائها ، وأن تمدهم الدول العربية بالأسلحة والأموال وما إلى ذلك من وسائل المساعدة، وأن لا تدخل الجيوش العربية النظامية فلسطين. ولكني عندما شعرت في ذلك الحين برغبة بعض الشخصيات العربية الرسمية في إدخال الجيوش العربية فلسطين، وباندفاعها في هذه السبيل، أوجست في نفسي خيفة وأبديت ارتيابي وخشيتي من أن تكون وراء ذلك دسيسة أجنبية وعارضت في هذا معارضة شديدة ، ولم تكن جميع الدول العربية موافقة على إدخال جيوشها إلى فلسطين ولكن تيار الضغط الأجنبي على بعض الشخصيات المسئولة في الدول العربية في ذلك الحين كان بدرجة من الشدة اجتاح معها كل معارضة ، ودخلت الجيوش العربية وكانت مصر من أشد الدول معارضة لدخول جيشها في الحرب. ثم دخلت بتأثير دوافع متعددة كما ظهر في المحاكمات الأخيرة أمام محكمة الثورة، فقد قيل في صدد دخول الجيش المصري حرب فلسطين : "إن المرحوم النقراشي أسر إلى أحد كبار المصريين وقتئذ – أيهدى" من روعه ومعارضته – أن الإنجليز متحمسون لدخولنا الحرب، وأنهم وعدوه بمد الجيش المصري بالأسلحة والذخيرة التي يحتاج إليها..."
الجيوش العربية تحت قيادة جنرال إنجليزي :
فلما دخلت الجيوش العربية فلسطين سلمت قيادتها العملية إلى الجنرال جلوب الإنجليزي، وصدر أمر الملك عبد الله بإلغاء منظمة الجهاد المقدس الفلسطينية وجميع القوى والعصابات التابعة لها، وإلغاء جيش الإنقاذ المؤلف من المتطوعين وطلب إلغاء الهيئة العربية العليا لفلسطين، ووضعت خطة محكمة لإبعاد الفلسطينيين عن ميدان الجهاد والسياسة، وعن كل ما يتعلق ببلادهم ومستقبلهم وحياتهم .
دعايات مضللة وتهم باطلة تذاع عن فلسطين :
3- ولتبرير إبعاد الفلسطينيين عن ميدان المعركة قامت دوائر المخابرات البريطانية واليهودية، وغيرها من الدوائر الموالية لها، بدعايات واسعة مضللة وإشاعات مبطلة عن الفلسطينيين تكيل لهم فيها جزافاً أفظع التهم كتجسسهم على الجيوش العربية وبيعهم جنودها وضباطها لليهود، ونحو ذلك من الأكاذيب التي لا ظل لها من الحقيقة، ولا يعقل أبداً أن يرتكبها الفلسطينيون الذين هم أعظم الناس مصيبة باليهود والاستعمار، وأشدهم حتقاً عليهما. واستغل الخصوم بعض حوادث التجسس التي كان يقوم بها أفراد من اليهود فشأوا في البلاد العربية وحذقوا لغتها وعاداتها، وقد بثتهم دوائر الاستخبارات اليهودية في كل الجهات وهم يرتدون الثياب العربية حتى ظن أنهم من عرب فلسطين . وأذكر مثلاً لذلك حادثتين معروفتين في منطقة غزة الأولى أن القوات المصرية المسلحة قبضت على أثنين من اليهود يرتديان ثياب البدو بينما كانا يقومان بإلقاء ميكروبات الكوليرا وغيرها من الجراثيم الوبائية في آبار تلك المنطقة بقصد إبادة سكانها والقوات المصرية الموجودة فيها، والثانية قصة طريفة قصها على كل من الأمير الاي السيد مصطفى الصواف نائب الحاكم الإداري العام لقطاع غزة سابقاً ، والسيد عبد الرحمن الفرّا رئيس بلدية خان يونس، وخلاصتها أن دورية مصرية قبضت على رجل يرتدي ثياب بدو فلسطين بينما كان خارجاً من مستعمرة "كفار داروم، ومتجهاً إلى "خان يونس" وعند سؤاله زعم أنه ينتمي إلى عشيرة عربية مجاورة فلما سئل شيوخ العشيرة عنه أنكروه. ولما ضيق المحققون عليه الخناق اعترف أنه جاسوس يهودي، وأنه يتجه إلى خان يونس ليقابل فيها زميلاً له، فلما رافقوه ليدلهم على زميله كانت دهشتهم بالغة عندما دلهم على شيخ معمم مقيم بجامع البلد ويلبس الملابس الفلسطينية وكان هذا الشيخ يتظاهر بالورع ويصلي في الصف الأول، ويقيم في الجامع ، وفي نهاية التحقيق الرسمي اعترف هذا الشيخ المعمم بأنه يهودي ديناً وجنسية، وأنه يقوم بالتجسس على حركات الجيش المصري، وأنه تظاهر بأنه مسلم فيما مضى ، وانخرط في الجامع الأزهر في سلك الطلاب أمداً غير قصير درس خلاله الدين الإسلامي واللغة العربية ..
ولقد وقع كثير من أمثال هذه الحادثة كان يقوم بها يهود يتزينون بزي العرب الفلسطينيين ولا يتسع المجال لسردها الآن، مما ساعد على ترويج تلك التهم الشنيعة والإشاعات الكاذبة المضللة عن أهل فلسطين وهم منها براء. على أن أهل فلسطين كغيرهم من الشعوب منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، ولا يبعد أن يكون بينهم أفراد قصروا أو فرطوا أو اقترفوا الخيانة، ولكن وجود أفراد قلائل من أمثال هؤلاء بين شعب كريم مجاهد كالشعب الفلسطيني لا يدمغ هذا الشعب، ولا ينقص من كرامته، ولا يمحو صفحة جهاده العظيم .