واقعة واحدة تمثل الصورة الكاملة لحياة صحابي
حمداً لله تعالى مشفوعاً بالتوحيد والتقديس0
حمداً لله الذي خَصّ نبيَّه محمّداً وأهلَ بيته عليه وعليهم أفضل الصلوات والتسليم بالاجتباءِ والاصطفاء، والتطهيرِ والتكريم، وأمرَ بالصلاةِ عليه وعليهم كما أمرَ بالصلاةِ على إبراهيم وآلِ إبراهيم، وجعل معرفتَهم براءةً من النار، ومحبّتَهم جوازاً على الصراط، وولايتَهم أمْناً مِن العذابِ الأليم.
والصلاة والسلام على سيدنا محمّدٍ النبيِّ الأُمّيِّ الذي هو على خُلُقٍ عظيم، وبالمؤمنين رؤوفٌ رحيم.
وعلى ذريّتهِ وأهل بيته وعترته , الذين بذِكْرهم تُستدفَعُ نوازلُ البلاء والضرر، ويُستعاذُ من سوء القضاء وشرّالقَدَر، ويُستنزل بهم في المُحول نَوافعُ المطر، ويُستقضى بهم على غلَبات اليأس وجوامعِ الوَطَر, جَمالُ ذي الأرضِ كانوا في الحياةِ , وهُم بـعـد المـمـاتِ جـمالُ الكُتْـبِ والـسِّيَـرِ
يقول الله تبارك وتعالي
 |
|  بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة : 262 ) | |
واقعة واحدة، تمثل الصورة الكاملة لحياة صحابي , واحد من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم
فذات يوم، والمدينة ساكنة هادئة، أخذ يقترب من مشارفها غبار كثيف، راح يتعالى ويتراكم حتى كاد يغطي أفق المدينة, ودفعت الريح هذه الأمواج من الغبار المتصاعد من رمال الصحراء الناعمة، فاندفعت تقترب من أبواب المدينة، وتهبّ هبوبا قويا عليها
وتوقع الأهالي أنها عاصفة رملية عاتية ، لكنهم سرعان ما سمعوا ضجة تنبئ عن قافلة كبيرة مديدة.
ولم يمض سوى وقت قصير، حتى كانت سبعمائة راحلة تزحم شوارع المدينة وترجّها رجّا، ونادي الناس بعضهم بعضا ليروا مشهدها الحافل، وليستبشروا ويفرحوا بما تحمله من خير ورزق0
تسألت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، وأرضاها , بعد أن ترامت إلى مسامعها أصداء القافلة الزاحفة,
ما هذا الذي يحدث في المدينة!؟
وأجيبت: أنها قافلة جاءت من الشام تحمل تجارة !
قالت السيدة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها :
قافلة تحدث كل هذه الرّجّة..؟!
أجل يا أم المؤمنين000 إنها سبعمائة راحلة000!!
وتستفسر أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها عن هذه القافلة ولمن هي ؟
إنه الصحابي الثقة الأمين
عبد الرحمن بن عوف – رضي الله تعالي عنه
ترجمته رضي الله عنه
هو أبو محمد عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زُهرة بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤي
كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو
وقيل كان اسمه عبد الحارث وقيل عبد الكعبة، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن. وذكر الحافظ العسقلاني في "الإصابة" أنه ولد بعد عام الفيل بعشر سنين.
وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة أهل الشورى وأحد الثمانية الأوائل الذين أسلموا قديمًا قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم.
وهو أحد الذين هاجروا الهجرتين: الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة المنورة وأحد السابقين الذين شهدوا بدرًا وكذا شهد المشاهد كلها.
ولادته رضي الله عنه:
بينما كانت مكة تحتفل بمرور عشرة أعوام علي حادثة الفيل ونصر الله تعالي لبيته العتيق علي أبرهة , الذي أقبل ليهدمه ويحول الناس عنه إلي بناء قد أقامه وزخرفه ليحج الناس إليه بدلاً من الكعبة المشرفة , ولم يدع رب البيت عدوه يدنو منه , فأرسل عليه وعلي جيشه الجرار طيراً كثيفة متتالية تحمل أحجار صغيرة , فترميهم بها فأتت عليهم وأهلكتهم جميعاً , وقد تحدث القرآن الكريم عن هذه الواقعة ونصر الله تعالي لبيته العتيق في سورة وهي سورة الفيل 0
والناس في يوم الاحتفال هذا منهم من يتوجهون إلي الأصنام المنصوبة حول الكعبة ويسجدون لها ويتوسلون بها , وبعضهم يقف أمام خدم هذه الأصنام خاشعين ويمسحون أيديهم علي رؤوسها ويباركونها بكلام غير مفهوم زاعمين أنها أوحت به إليهم0
وآخرون مندهشين مما يحدث 0
وطائفة ساخرة مما يحدث أهذه الحجارة الصماء التي لا تسمع ولا تري ولا تعقل , تضر وتنفع أيها البلهاء
ليست هذه الأصنام التي هزمت أبرهة وجيشه الجرار , ألا تعقلون !
ليست هذه الأصنام التي تخلق وترزق , ولا هي التي تمر ض وتشفي , ولا هي التي تحيي وتميت 0
فهي قطع من الحجارة من الجبال التي ترونها أمامكم عاجزة عن حماية نفسها , ود هشمها إبراهيم بفأسه من قبل 000 ألا تعقلون !
وارتفعت الأصوات ثائرة في غضب لزجر هذه الطائفة التي تحقر ألهتهم 0
وثارت ثأرت القوم عليه وعلي من معه ممن يبشرون بالدين الجديد ويبعث رسولاً به , فاتجه القوم إلي سيد من سادات قريش متزن العقل , ليدرك الناس قبل أن تكون معركة طاحنة 0
فوجدوه مشغولاً شارد الذهن , مشغول الفؤاد , ينظر إلي الطريق باهتمام شديد , كانت زوجته علي وشك الوضع متمنياًَ أن يكون أبناً , فصاحوا مستنجدين به أتري يا سيد بني زهرة ما نحن فيه ؟
من غيرك لهذا النزاع الذي شب ولا يبقي ولا يذر , وما لنا نراك شارد الذهن , مشغول البال , غير مبالي بالخطر المحدق بنا ؟
وفجأة اتسعت عيناه , إذا أبصر خادمته تقبل إليه بوجه طلق وشفاه مبتسمة , فمالت علي إذنه وأسرت إليه , فهب واقفاً يقول في سعادة وسرور , حمداً لك إلهي علي ما أعطيت 0
وانطلق مسرعاً ليري أبنه الذي كان شديد الشوق إليه 0
وقال لزوجته الشفاء : إنه طفل جميل بارع تلوح عليه دلائل السمو والعظمة , وإني أري فيه شبهاً كبيراً من محمد بن عبدالله بن عبد المطلب , الذي يفتتن الناس ببهائه وأدبه الجم الشديد , وشهامته , مع أنه لم يتجاوز سنه العاشرة , فأرجو أن يكون مثله
ثم فكر قليلاً وقال بما نسميه يا شفاء؟
وقبل أن تجيب قال سأسميه عبد عمرو , فقال الشفاء ولما لم نسميه محمداً؟
أما سمعت من يؤكدون أن واحداً مما يسمون بهذا الاسم سيكون له شأن كبير ؟ لعل يا عوف وعسي !
ثم ما لبث أن بدت عليه علامات الذكاء والنباهة . مما جعل أبوه يصطحبه لمجالس قريش حول الكعبة , ويسألونه أسئلة فوق سنه فيجيبهم عليها بما يدهشهم , فيعجبون به , وتعلم القراءة والكتابة والحساب والمبارزة بالسيف , والطعن و فنون الحرب , وكان يقول في سنه الصغير الحق ولا يكذب , وأخذه والده معه في رحلاته التجارية لبلاد الفرس والروم ومصر والحبشة وغيرهم 0
ظهرت علي هذا الطفل علامات عدم الارتياح, مما يجده من أعمال أمام الأصنام ممن يعبدونها , وزاد بغضه وكره لها عندما كبر وأدرك حقيقتها , وكلما حدثه والده عنها قال في جد هذا إحساسي يا أبي وحديث قلبي , وأنك حكيم واسع العقل , فاتركني وإحساسي الذي يوجهني ويملك عليّ نفسي , حيث تأملت الكون من حولي من سماء وأرض وجبال وأقمار ونجوم وكواكب وبحار و كل ما يدب فيه من كائنات ومخلوقات عجيبة شككت أن تلك الأصنام الحجارة العاجزة هي التي خلق هذا الكون بكل ما فيه وأبدعته , ونفخت فيه الروح وهي ميتة لا روح فيها ولا حياة !
أليست البعرة تدل علي البعير , وأسير السير يدل علي المشي 0
فكيف لا تدل كل هذه المخلوقات علي خالقها؟
صاح أبوه في غضب : فكر يا عبد عمرو , وعد لصوابك , ولا تنخدع بما يقال من هؤلاء الشاردين عن دين الآباء والأجداد ممن يقولون أن هناك إلهاً غيرها يرزق ويخلق , ويحيي ويميت !
ألا تخشي أن تغضب الآلهة عليك وعلينا , وتخسف بنا الأرض , وتبور تجارتنا وتمنع عنا الخير ؟!
أذهب يا بني إليها وقد القرابين والمال لخدمتها وقبل أقدامها لعلها ترضي عنك وتغفر لك وتمنع عنا عقابها الذي لا يقدر عليه أحد !
ولم يذهب الفتي لتلك الأصنام ومضي في طريق إحساسه مستجيب لنداء قلبه , يشارك في مجلس من يحقرونه ويبشرون بالدين الجديد الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر , وينظر إلي التجارة يجدها تنمو تزدهر وتكثر كلما زاد في بغض هذه الآلهة والأصنام , حتى أصبح من أكبر تجار مكة مالاً وأكثرهم صيتاً 0
ومن هم حول والده يلومونه علي سكوته عنه وتركه لأبنه علي ما هو عليه , ويخوفنه من الأصنام بأنها صابرة عليه , ولصبرها حدود , وإن لم ترده عما هو عليه , فسوف تصب الآلهة غضبها عليه وعليك وتكونا معاً في نارها المستعرة 0
فيقول لهم صبراً علي عبد عمرو فهو عاقل وستعلمه الأيام والليالي كيف يري الحق ويصبو إليه0
وكان هذا الفتي شديد التعلق مثل الكثيرين من قومه بني زهرة بابن أختهم محمد بن عبد الله معجباً ببعده عن الأصنام وعما فيه شباب مكة مما يخدش الحياء والكرامة0
إسلامه رضي الله عنه
كان رضي الله عنه يحب سيدنا أبا بكرالصديق بن أبي قحافة رضي الله عنه التاجر الناجح , المتعلق مثله بسيدنا محمد بن عبد الله صلي الله عليه وسلم حتى قارب الثلاثين من عمره وقارب أبوبكر الصديق رضي الله عنه الثامنة والثلاثين وقارب سيدنا محمد بن عبد الله الأربعين0 صلي الله عليه وسلم
ولما بلغ سيدنا رسول الله محمد بن عبدالله صلي الله عليه وسلم الأربعين من عمره وانقطاعه للعبادة في غار حراء , أوحي الله تعالي إليه باختياره نبياً ورسولاً للناس كافة وأنزل عليه القرآن الكريم نوراً وهدي فصدقت السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها وكل من في الدار 0
وما كاد سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعلم حتى أسرع وأمن وصدق , وأسرع بإخبار عبد عمرو بذلك
فذهب معه إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم , ومد عبد عمرو يده لرسول الله وآمن به 0
وفي هذا الموقف الجليل يقول سيدنا أبوبكر لسيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم :
ما سمع بعد عبد عمرو يا رسول الله بالإسلام حتى أسرع وآمن , لم يسأل ولم يتردد , وكأنه كان علي موعد مع هداية الله تعالي , وليت غيره يكون مثله , فالحق واضح لا يخفي علي ذي عينين سليمتين0
فالتفت رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي عبد عمرو وقال بابتسامة لطيفة ألغي الإسلام يا صاحبي عبادة الناس وجعلها لله تعالي وحده لا شريك له رب السموات والأرض , فهل لك من اسم جديد بعيد عن الرق البغيض 0
من هذه اللحظة أنت عبد الرحمن , لا عبد الإنسان !
فهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام0
مواقف من حياته رضي الله تعالي عنه:
ما كاد الخبر يبلغ مسامع رؤساء قريش حتى هبوا ثائرين علي رسول الله صلي الله عليه وسلم ودينه ومن اتبعوه , فيتشاورون في هذا الأمر الذي أفزعهم واتفقوا علي مواجهته والوقوف دون انتشاره بكل ما آتوا من قوة وحيل0
وسارت رسلهم إلي المسلمين تهددهم بقطع أرزاقهم وبوار تجارتهم وكساد صناعتهم
وذهب كبير منهم غليظ القلب إلي سيدنا عبد الرحمن بن عوف يدعى أبا الحكم بن هشام , كاشر الوجه يقول في غلظة :
عم مساء يا عبد عمرو بن عوف , فلم يجبه , ولم يتركه يكمل حديثه وقال له ساخراً ك
لم يعد عندنا يا أبا الحكم في الإسلام تحيه عم مساء , وعم صباح , بدلها دين الإسلام الحنيف فيما غير من العادات التي لا توافقه وأبدلها بتحية خير منها فيقول المرء لأخيه حين يقبل عليه السلام عليكم فيجيبه قائلاً : وعليكم السلام ويزيد وعليكم والسلام ورحمة الله وبركاته 0
فالسلام هو الأمان , فقل عليكم السلام , أجبك بمثله وأحسن منه 0
فقام أبو الحكم غاضباً , ومضي سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقول :
لم يعد اسمي عبد عمرو , يا عمرو بن هشام , ألفي الإسلام عبودية الإنسان للإنسان , وسماني رسول الله صلي الله عليه وسلم , عبد الرحمن , فقل يا عبد الرحمن أجبك0
فقال أبو الحكم في مرارة :
وما الرحمن ؟! اسم رددنا على محمد حين سمعناه ولم نقبله ولن أدعوك به , ولن يجرى علي لساني أبداً0
أنت لتعرف ما جئتك من أجله :
أرسلني شيوخ ورؤساء قريش لأبلغك قرارهم الحاسم في أمر محمد بن عبد الله , وأقول لك بلسانهم , إما أن تترك هذا الدين وتعود لدين آلهتنا وآلهة آبائنا وأجدادنا , وإما عرضت نفسك للخطر الذي لا تقدر علي دفعه وصده فأسرع سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ساخراً قائلاً : وماذا أنتم فاعلون يا بن هشام ؟!
ألا تعرفون عبد الرحمن بن عوف وقوته وبأسه؟!
أنسيتم أم تناسيتم قومه بنو زهرة , وأنهم سيخطفون رؤوس من يحولون أن ينالوه بأذى؟!
فقاطعه أبو الحكم مهدداً , قوافلك التجارية يا بن عوف , اتفقنا علي أن نكسد تجارة من خالفونا وآمنوا بمحمد ونقف لها بالمرصاد ونحقرها ولنا أصدقاء كثيرين في شتى البلاد سيتعاونون معنا 0
فصاح سيدنا عبدالرحمن في وجهه بقوة وغضب قائلاً :
ألابن عوف تقول ذلك يا أبا جهل ؟!
صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ لقبك بهذا اللقب الذي فصل عليك تفصيلاً, فلم تعد تدعي أبا الحكم , لأنه لا يتفق مع جهلك وغلظتك وقسوتك وطول لسانك , طار عقل ولم تعد تدرك ما جري أو تعيه !
لقد دخلنا يا أبا جهل في دين الإسلام النظيف الحنيف , وبعنا كل ما نملك لله تعالي الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ونعيمها المقيم الذي لا يكسد ولا يزول 0
فاعتدل واختصر في قولك و تزد , واستعد أنت ومن معك من الكافرين الضالين لقتال مرير يعيننا عليه ربنا القوي القدير0
وقد مرت مواقف كثيرة بالإسلام والمسلمين وانتشر نور الإسلام واخترق الآفاق رغماً عنهم حتى جاء الأذن من الله تعالي بالهجرة فأمرهم رسول الله بالهجرة إلي الحبشة ومعهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه , ولم يطق عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن يطول فراقه لرسول الله صلي الله عليه وسلم , وما لبث أن رجع لمكة . وأطفأ شوقه وحنينه إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم 0
ولم يجدوا أولئك الكفار جدوى مما يصنعون , فأجمعوا أمرهم علي القضاء علي هذا الدين بقتل صاحبه الذي جاء به , فأوحى الله تعالي لنبيه صلي الله عليه وسلم أن يترك مكة ويهاجر إلي يثرب , فاستعد رسول الله صلي الله عليه وسلم للهجرة إليها وأمر أصحابه رضوان الله عليهم أن يسبقوه ومن بينهم عبد الرحمن بن عوف الصحابي الجليل غير مهتم بثروته الضخمة ولا بتجارته الواسعة مستجيباً لنداء الرسول بالخروج , وهناك وجدوا ما لم يتوقعه الكفار وأفزعهم, حيث وجدوا أحبة وأخوة استقبلوهم بصدور رحبة قاسموهم بيوتهم وأموالهم وسماهم رسول الله صلي الله عليه وسلم بالأنصار وأخا بينهم وبين المهاجرين مثل أخيه لأبيه وأمه , له ما له وعليه ما عليه , حتى أنه ليرثه إذا مات , وفرح الأنصار بهذا فرحاً كبيراً وقسموا كل منهم ما له نصفين وخير أخاه المهاجر بينهما ليختار ما يحب 0
وقد من نصيب الأخوة لعبد الرحمن بن عوف , سعد بن الربيع أحد سادة الأنصار وزعمائهم , فقسم سعد كل ما يملك نصفين وقال لعبد الرحمن بن عوف بنفس راضية أخي يا بن عوف :
إني بحمد لله أكثر أهل المدينة مالاً وقد قسمته نصفين , فانظر النصف الذي يحلو لك وخذه هنئياً مريئاً 0
و لنتأمل موقف سيدنا سعد بن الربيع الأنصاري مع سيدنا عبد الرحمن بن عوف المهاجر رضي الله تعالي عنهم , أتسأل!
أين نحن في هذا الزمان من هذا !
أخ لأب ولأم يملك العقارات وتتكدس البنوك بأرصدته يأكل من الطعام ما لذ وطب ويلقي بما يفيض عن حاجته في القمامة وأخيه لأبيه وأمه لا يجد لقمة يسد بها جوعه ورمق أولاده!
أخ لأب ولأم يملك العقارات وتتكدس البنوك بأرصدته وأخيه لأبيه وأمه لا يجد ثمن الدواء ولا يقدر علي شرائه!
أخ لأب ولأم يملك العقارات وتتكدس البنوك بأرصدته , يبدل وأولاده ملابسهم في الصباح والظهيرة والمساء وأخيه لأبيه وأمه لا يجد ما يستر به عورته وأولاده !
أخ لأب ولأم يملك العقارات وتتكدس البنوك بأرصدته وأخيه لأبيه وأمه لا يجد مأوى من غرفة تأويه!
هنيئاً لكم أيها الأنصار بما قدمتم , وهنيئاً لكم أيها المهاجرون مما وجدتم في أخوة الأنصار تريثون بعضكما بعضا عليكم سلام الله في كل وقت وحين 0
أستأذنكم للعودة مرة أخرى :
أخي يا بن عوف :
إني بحمد لله أكثر أهل المدينة مالاً وقد قسمته نصفين , فانظر النصف الذي يحلو لك وخذه هنئياً مريئاً 0
بارك الله فيك يا بن الربيع في مالك وأهلك وزادك من خيره وفضله 0
لا حاجة لي إلي شيء من ذلك ولكن دلني علي السوق , وماذا تصنع في السوق يا بن عوف
اشتري وأبيع وأكسب وأربح إن شاء الله تعالي 0
كيف ذلك يا بن عوف وليس لك رأس مال تتجر فيه وتركت كل مالك واستولى عليه الكفار 0
رأس مالي يا بن الربيع معي أينما كنت , عقلي وإدراكي و حسن تصرفي , واحسبني لو رفعت حجراً من موضعه لوجدت تحته ذهباً وفضة0
ولم يفلح معه رجاء سعد أن يقاسمه ماله , وتوجه إلي السوق وباع واشتري وعاد أخر يومه بربح وفير سر به رسول الله صلي الله عليه وسلم 0
بهذه العزيمة الصادقة مضي سيدنا عبد الرحمن بن عوف مع سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه في ساحات التدريب لملاقاة مشركي قريش , وفي المسجد يصلي , أو يحفظ ما نزل من القرآن الكريم , ويستمع للأحاديث الشريفة . وفي مجلس الشورى الذي يعقده سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم , وفي تجارته التي تروح وتغدو وسارت أكثر رواجاً , وفي السرايا الصغيرة تحت راية رسول الله صلي الله عليه وسلم0
لم يمضي وقت كبير وكانت معركة التقي فيها الإيمان بالشرك علي أرض بدر ودارت معركة حامية أثبتت للمشركين قوة الإسلام التي أنكروها وجاءوا يطفئوا نورها 0
وكان سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالي عنه بطلاً صال فيهال وقطع أعناق الكفر وأذهل الأعداء بما أبدي فيها حتى أتم الله نصره المؤزر للمسلمين0
وسر رسول الله صلي الله عليه وسلم بشجاعة وبسالة سيدنا عبدالرحمن بن عوف 0
كما حمد له دوره البطولي الكبير في معركة أحد حيث ضرب مع أصحابه نطاقاً حول رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما أنكشف المسلمين وانهمكوا في جمع الغنائم , باذلاً نفسه لإنقاذه غير مبالي بما أصابه من ضربات عميقة تركت آثار في جسده حتى ردوا عنه كيد الأعداء 0
ومضي مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في الجهاد لم يتخلف عن أي معركة , فشهد الخندق والمشاهد كلها معه بسيفه ومشورته وصواب رأيه رضي الله عنه 0
إنه عبدالرحمن بن عوف !
القائد المحنك!
مهما صمدتم له فأنتم مهزومون !
فأفيقوا إلي أنفسكم!
قالها : الأصبغ بن عمرو الكلبي !
في السنة السادسة من الهجرة اختاره رسول الله صلي الله عليه وسلم لقيادة سرية من سبعين بطلاًَ إلي دومة الجندل والقريبة من البحر طريق الشام , فامتثل لأمر رسول الله صلي الله عليه وسلم وسار عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه إليها يدعو أهالها إلي الإسلام فأبوا أن يجيبوا ندائه, فدعاهم مرة ثانية فأصروا علي عنادهم , فدعاهم المرة الثالثة كما يأمر الدين
ولم يكن بعدها غير صليل السيوف , فاجتمعوا أهلها يتشاورون ويفكرون , فصاح فيهم رئيسهم الأصبغ بن عمرو الكلبي ساخراً !
فيما تفكرون وتتناقشون ؟!
ماذا تنتظرون ؟!
إنه الإسلام اشتد ساعده وثبتت قوته!!
إنه عبدالرحمن بن عوف القائد المحنك, الخبير المشهور وسوف لا تطيقون سيفه الباتر , القاطع للرؤوس , إذا حاربتموه !
ومهما صمدتم له فأنتم مهزومون !
فأفيقوا إلي أنفسكم , ولا تكونوا كالنعامة تدفن رأسها في الرمال إذا أبصرت الصياد , وتظن أنها بذلك نجت منه 0
وإني ذاهب إليه ومقدم له الطاعة , فتحملوا عواقب عنادكم , فلست مسئولاً عنه 0
وأسرع إلي عبد الرحمن بن عوف ومد يده إليه ودخل في الإسلام , فأفاقوا , وتابعوه وأسلموا , فسر القائد البصير الرحيم بما بلغ من النصر 0
زواجه رضي الله تعالي عنه من ابنة الأصبغ بن عمرو الكلبي:
عملاً علي توطيد الصلات , كان سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم يعمل علي توثيقها بينه وبين العرب بكل الطرق ومنها الزواج 0
فكتب صلي الله عليه وسلم إلي عبدا لرحمن بن عوف يهنئه بالنصر الهادئ , وأن يتزوج تماضر ابنة الأصبغ بن عمرو الكلبي , فتزوجها وعاد بها إلي المدينة , وولدت له ولداً سماه محمداً , تيمنا برسول الله صلي الله عليه وسلم وحباً فيه, ومنذ تلك اللحظة أصبح يكني به
مناقبه رضي الله عنه
كان الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه واحدًا من أولئك الأبطال الذين أُثر عنهم بذل النفيس في سبيل الله ونصرة دينه، فقد روى ابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن ثابت البناني عن أنس قال: بينما عائشة رضي الله عنها في بيتها إذ سمعت صوتًا رجَّت منه المدينة فقالت: ما هذا؟ قالوا: عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف من الشام، وكانت سبعمائة راحلة، فقال عبد الرحمن بن عوف لعائشة رضي الله عنها: فإني أُشهدك أنها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله عز وجل.
وروى الذهبي في "سير أعلام النبلاء" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خياركم خياركم لنسائي" فأوصى لهن عبد الرحمن بن عوف بحديقة قُوّمت بأربعمائة ألف.
وقال عبد الله بن جعفر الزهري: حدثتنا أم بكر بنت المسور أن عبد الرحمن باع أرضًا له لعثمان بن عفان بأربعين ألف دينار فأخذ المال وقسمه في فقراء بني زُهرة وفي المهاجرين وأمهات المؤمنين.
قال المِسْوَر: فأتيتُ عائشة بنصيبها فقالت: من أرسل بهذا؟ قلتُ: عبد الرحمن بن عوف، فقالت: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون". وقد أخرج أحمد بن حنبل هذا الحديث في مسنده.
وذكر الذهبي في سيره عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة أن عبد الرحمن بن عوف أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، فكان الرجل يعطى منها ألف دينار. وقال الزهري إن عبد الرحمن بن عوف أوصى للبدريين بمال فوُجدوا مائة، فأعطى كل واحد منهم أربعمائة دينار فكان منهم سيدنا عثمان بن عفان فأخذها.
وبإسناد أخر عن الزهري أن عبد الرحمن أوصى بألف فرس في سبيل الله.
وفي "صفة الصفوة" لابن الجوزي عن الزُهري أنه قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله أربعة ألاف، ثم تصدق بأربعين ألفًا ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله تعالى، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله تعالى، وكان عامة ماله من التجارة.
وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة في الحديث الذي ذُكر فيه العشرة المبشرون.
كان رضي الله عنه من أعدل وأثبت الصحابة رواية للأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي سِيَر الذهبي عن ابن عباس أنه قال: جلسنا مع عمر فقال: هل سمعت عن رسول الله شيئًا أمر به المرء المسلم إذا سها في صلاته كيف يصنع؟ فقلت: لا والله، أوما سمعت أنت يا أمير المؤمنين من رسول الله في ذلك شيئًا؟ فقال: لا والله، فبينا نحن في ذلك أتى عبد الرحمن بن عوف فقال: فيم أنتما فأخبره عمر، فقال عبد الرحمن: لكني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في ذلك، فقال له عمر: فأنت عندنا عدل، فماذا سمعت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سها أحدكم في صلاته حتى لا يدري أزاد أم نقص، فإن كان شك في الواحدة والثنتين فليجعلها واحدة، وإذا شك في الثنتين أو الثلاث فليجعلها ثنتين، وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثًا حتى يكون الوهم في الزيادة، ثم يسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يُسَلّم ثم يُسَلّم".
وكذلك ذكر الحافظ العسقلاني في "الإصابة" أن سيدنا عمر بن الخطاب لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى سمع عبد الرحمن بن عوف يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ الجزية من مجوس هَجَر، فصـار بعدهـا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذها منهم.
وفي "الإصابة" أيضًا للحافظ العسقلاني من حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يحافظ على أزواجي من بعدي هو الصادق البار" فكان عبد الرحمن بن عوف يخرج بأزواج النبي ويحج معهن ويجعل على هوادجهن الطيالسة.
ومن مناقبه أنه صلى بالنبي عليه السلام صلى الله عليه وسلم إمامًا، فعن المغيرة بن شعبة أنه سئل: هل أمَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أحدٌ من هذه الأمة غير أبي بكر؟ فقال: نعم، فذكر أن النبي توضأ والمغيرة معه ومسح على خُفَّيه وعمامته (أي مسح شيئًا من الرأس ثم أكمل على العمامة)، وأنه صلى خلف عبد الرحمن بن عوف.
وفي رواية أن الرسول انتهى إلى عبد الرحمن بن عوف وهو يصلي بالناس، فأراد عبد الرحمن أن يتأخر، فأومأ إليه أن مكانَكَ، فصلى وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة عبد الرحمن ركعة واحدة وأتم الذي فاته. وفي "صفة الصفوة" أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ما قُبِضَ نبي حتى يصلي خلف رجل صالح من أمَّته".
وعن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه قال: كان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف شىء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: "دعوا لي أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحُد ذهبًا لم يُدْرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه". ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ونَسَبه إلى البزار وقال: رجاله رجال الصحيح. وفي رواية مسلم في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لخالد: "لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبًا ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه».
وامتدحه أكثر من واحد من الصحابة رضوان الله عليهم، فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ورد عنه أنه قال فيه: "عبد الرحمن أمين في السماء وأمين في الأرض"، وعمر بن الخطاب قال فيه: "عبد الرحمن سيد من سادات المسلمين".
وعن سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء وكان معه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف رضوان الله عليهم فقال صلى الله عليه وسلم: "اثبت حراء فإنما عليك نبي أو صِدّيق أو شهيد".
خصائله وشمائله رضي الله عنه
ولقد كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مع كثرة ماله متواضعًا عفيف النفس متفكرًا بالآخرة، فقد روي في "صفة الصفوة" عن نوفل بن إياس الهُذلي أنه قال: كان عبد الرحمن لنا جليسًا وكان نِعْم الجليس، وإنه انقلب بنا يومًا حتى دخلنا بيته فدخل فاغتسل، ثم خرج فجلس معنا وأُتينا بصحفة فيها خبز ولحم، فلما وُضعت بكى عبد الرحمن بن عوف، فقلنا له: يا أبا محمد ما يبكيك؟ فقال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ولا أرانا أُخّرنا لها لما هو خير لنا.
وأخرج البخاري عن سعد بن إبراهيم عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف أُتي بطعام وكان صائمًا فقال: قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكُفن في بردة إن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، وقُتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسط، وأُعطينا من الدنيا ما أُعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
وفي حلية الأولياء لأبي نُعيم أن رجلاً قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم القرءان وكان لين الصوت، فما بقي أحد من القوم إلا فاضت عينه غير عبد الرحمن بن عوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لم يكن عبد الرحمن فاضت عينه فقد فاض قلبه".
ومن مناقبه أيضًا عزل نفسه عن الخلافة ورفضه إياها وكان جديرًا بها، فلما قُتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتمع أهل الشورى لمبايعة خليفة جديد للمسلمين، قال عبد الرحمن: هل لكم أن أختار لكم وأنفصل منها؟ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنا أول مَنْ رضي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك أمين في أهل السماء، أمين في أهل الأرض".
وعن سعيد بن المسيب أن سعد بن أبي وقاص أرسل إلى عبد الرحمن رجلاً وهو قائم يخطب: أن ارفع رأسك إلى أمر الناس، أي ادعُ إلى نفسك، فقال عبد الرحمن: ثكلتك أمك، إنه لن يلي هذا الأمر أحد بعد عُمر إلا لامه الناس.
وعن المسور بن مخرمة أن عبد الرحمن قال حين طُلب منه أن يدعو إلى نفسه: والله لأن تؤخذ مدية فتوضع في حلقي ثم يُنفذ بها أحَبُّ إليَّ من ذلك.
نعود مرة أخري للقافلة
وتستفسر أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها عن هذه القافلة ولمن هي ؟
وأجيبت: أنها قافلة لسيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه 0
وهزت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها رأسها، وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا، كأنها تبحث عن ذكرى مشهد رأته، أو حديث قد سمعته,أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا000"
عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا..؟
لماذا؟ !
لماذا لا يدخلها وثبا هرولة مع السابقين من أصحاب رسول الله..؟
ونقل أصحاب عبد الرحمن بن عوف ما قالته السيدة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إليه، فتذكر عبد الرحمن بن عوف أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أكثر من مرة بصيغ مختلفة 0
وقبل أن تفرغ الأحمال من تجارته، أسرع عبد الرحمن بن عوف خطاه إلى بيت السيدة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, واستأذن قائلاً : لقد ذكّرتيني بحديث لم أنساه 0
" أما إني أشهدك يا أم المؤمنين أن هذه القافلة بأحمالها، وأقتابها، وأحلاسها، في سبيل الله عز وجل"..
ووزع أحمال سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حولها في مهرجان برّ عظيم..!!
هذه الواقعة وحدها، تمثل الصورة الكاملة لحياة صاحب رسول الله عبد الرحمن بن عوف".
فهو التاجر الناجح، أكثر ما يكون النجاح وأوفاه..
وهو الثري، أكثر ما يكون الثراء وفرة وإفراطا..
وهو المؤمن الأريب، الذي يأبى أن تذهب حظوظه من الدين، ويرفض أن يتخلف به ثراؤه عن قافلة الإيمان ومثوبة
الجنة.. فهو رضي الله عنه يجود بثروته في سخاء وغبطة ضمير..!!
المستشار المؤتمن:
عرف عبد الرحمن بن عوف بسعة الأفق ونضوج الرأي والأمانة علي الأسرار والأنفس والأموال ، فكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يأتمنه علي كل عزيز لديه , ويستشيره فيما لا يحب أن يطلع عليه أحد 0
وعندما تولي سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أمر الخلافة , عرف له قدره وأختاره مستشاراً له بين أصحابه الذين اتخذ منهم مجلساً لمشورته 0
استشاره في ثورة المرتدين الذين خرجوا علي الإسلام عقب وفاة رسول الله صلي الله عليه وسلم , وفيمن يوليه الخلافة من بعده 0
وعندما تولي سيدنا عمر بن الخطاب أختاره أيضاً من بين أعضاء مجلس شوراه فأبدى رضي الله عنها كثيراً من الآراء الصائبة في أمور الحرب والسلم , وكان سيدنا عمر يسر إليه بالأسرار الجسام ويعمل بمشورته 0
وعندما عزم أمير المؤمنين عمر علي إرسال الجيوش لبلاد الفرس وسأل عما يوليه القيادة , فقال العامة من الناس , سر بهذه الجيوش أنت أمير المؤمنين وسر بنا معك 0
ولكن كان لسيدنا عبدالرحمن بن عوف رأياً أخر أن يبعث أمير المؤمنين علي الجيش رجلاً قوياً من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم , ويظل هو في المدينة يمده بالجنود والرأي , فإن حالفه النصر , وإلا بعث رجلاً غيره
فكان مما قال : أقم يا أمير المؤمنين وابعث قائداً خبيراً فإن يهزم جيشك فليس ذلك خطراً مثل هزيمتك أنت وإن تقتل في أول الأمر فإني أخشى ألا يكبر المسلمون وألا يشهدوا أن لا إله إلا الله أبداً0
كذلك عند تفشي مرض الطاعون فوقف سيدنا عمر متردداً في المضي وأستشار الصحابة فهم ما بين مؤيد المضي ومؤيد العودة وكلاً له ما يؤيد رأيه ويبرهن علي صوابه 0
وود أمير المؤمنين سيدنا عمر أن يجد شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلي الله عليه وسلم يقطع في الأمر فلم يجد عند احد شيئاً وبينما هم في حيرتهم إذ يقبل عليهم سيدنا عبد الرحمن فقال : عندي يا أمير المؤمنين من هذا علم 0
سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول ك إذا سمعتم بالطاعون ببلد فلا تفدوا عليه , وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فراراً منه 0
فسر وتهلل أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالي عنهما أجمعين وقال:
خزانة ابن عوف الأمين مملوءة علماً وأدبا ومالاً فالحمد الله الذي وفقني به إلي الصواب 0
الحكم المرتضي :
عندما فرغ المسلمون من دفن أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أجتمع أهل الشوري يتشاورن فيمن يختارونه خليفة , وثارت بينهم خلافات حادة لمدة يومين , كلاً يبرهن علي أحقيته بها , ويبقي يوماً واحدً علي الأجل الذي حدده أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه للانتهاء من الاختيار 0
وعندما رأى سيدنا عبدالرحمن بن عوف أن المناقشات تزداد مع امتداد الوقت عنفاً يؤدي إلي شر مستطير , علي الفور تدارك الموقف لا, وأسرع يسكن النزاع وقال في هدوء:
أيكم يخرج نفسه من هذا الاختيار , يوكل الأمر إليه , يكون عادلاً يولي الخلافة أفضلنا؟
ونظروا إليه جميعاً في عجب شديد , من أن يخلع نفسه من هذا الترشيح !
ولم يجب عليه أحد منهم بشيء ؟
فقال في هدوء : أنا أخلع نفسي منه , وأقوم يتولية من يصلح , فهل توافقون؟
فصاحوا جميعاً وكيف لا نوافق علي أن تكون الحكم بيننا , وأنت عبدالرحمن بن عوف ذو الرأي السديد الصائب والفكر البعيد؟!
ًقال رضي الله عنه : أعطوني مواثيقكم علي أن تكونوا معي علي من غير وبدل , وأقسم لكم علي ألا أحابي أو أتحيز أو أنصر أحداً , وألا أخص قريباً لقرابته , وألا أقصر في نُصح , فلما أعطوه مواثيقهم , خلع نفسه من ترشيح الخلافة زهداً فيها , وهو يرى كل العيون تنظر إليه , وترجوا أن يكون هو الخليفة 0
جعل سيدنا عبدالرحمن بن عوف همه كله في أن يجمع المسلمين وكلمتهم علي من يختاره خليفة لهم 0
وأخذ يحصر الترشيح في أضيق الحدود حتى أستطاع برجاحة عقله وحسن سياسته أن يحصره في أثنين منهم: سيدنا علي بن أبي طالب , وسيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالي عنهما , ثم أخذ يعمل علي حصره في واحد منهما , وانفرد بسيدنا علي رضي الله عنه وكرم وجهه وسأله لو أنه لم يكن بين المرشحين للخلافة فمن كان يراه أحق بها ؟!
فقال له : عُثمان بن عفان , فهو له من الميزات والسابقات ما يجعله أحق بها 0
ثم انفرد بسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه , وسأله ما سأله لسيدنا علي كرم الله وجهه!
فقال مسرعاً علي بن أبي طالب فسابقاته الكثيرة وميزاته العديدة تجعله أحق بها 0
فارتاح سيدنا عبدالرحمن بن عوف لما وصل إليه , ولم يقتصر في المشورة علي أصحاب الشورى وحدهم , بل سعى لغيرهم من أصحاب سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم ورضي الله عنهم , ممن أقبلوا للحج ويسألهم رأيهم , فوجد كثرتهم ترشيح سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ٍ0
فلم يكن لديه شك في أنه وصل إلي رأي يرضي , وبقى عليه أن يقنع هذين المتنافسين , فدعاهما وقال : إني سألت الناس فلم أجدهم يفضلون أحداً عليكما , فليعطني كل منكما العهد علي أني إذا وليته ليعدلن بين الناس , وإذا وليت عليه , ليسمعن وليطعن , فأعطاه كل منهما ما طلب , وقضى سيدنا عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه ليله ساهراً معهما في هذا العناء0
وفي الصباح خرج بهما إلي المسجد , وأمر فنودي في الناس بالاجتماع العام فأسرعوا إلي المسجد حني امتلأ , فصعد رضي الله عنه المنبر ودعا الله تعالي أن يجنب الأمة الإسلامية شر المفسدين الذين يسعون إلي تفرقها , ثم سأل الناس بما يشرون أن يكون الخليفة ؟
فارتفعت الأصوات مسرعه عالية في حماس تقول : أنت يا عبدالرحمن بن عوف أهل لها فعلى بركة الله 0
فأسرع رافضاً قائلاً : بل أشيروا علي بغير ذلك , فلا غرض ولا مأرب لي فيها وقد نزعت نفسي من الترشيح لها
فأشار بعضهم بالإمام علي كرم الله وجهه ورضي عنه وآخرون بسيدنا عثمان رضي الله عنه والبعض الآخر بغيرهما , وارتفعت الرؤوس بما فيها من الشر البادي ( الظاهر) في الأعين والأنفاس وعلت الأصوات بما فيها من بوادر الفتنة , فأسرع سيدنا عبدالرحمن رضي الله عنه
فدعا الإمام علي كرم الله وجهه ورضي عنه, وأخذ بيده وسأله هل يبايعه عل] أن يعمل بكتاب الله تعالي وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم , وينتهج طريق الخليفتين من بعده؟
فأجابه يرجو ذلك, ويعمل بمقدار عِلمه واستطاعته , فخلى يده0
ثم دعا سيدنا عثمان رضي الله عنه وأخذ بيده وسأله ما سأل الإمام علي كرم الله وجهه ورضي عنه, فقال اللهم نعم , أعمل بكتاب الله تعالي وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم , وأنهج طريق الخليفتين من بعده0
فلم يترك سيدنا عبدالرحمن يده , وظل ممسكاً بها , ورفع رأسه إلي السماء , وصاح قائلاً :
اللهم إني قد خلعت ما في عنقي من ذلك الأمر , ووضعته في عنق عثمان , وبايعه خليفة للمسلمين , فنهض الناس مسرعين إليه يبايعونه 0
وبذلك قد حسم سيدنا عبدالرحمن ابن عوف الأمر , وأطفاء نار الفتنة التي بدت ألسنتها ترتفع , وكبت الأعداء الذين أرادوا للإسلام التمزق والتفرق والشتات0
وظل لجوار الخليفة يعمل مستشاراً ناصحاً حتى بلغ الخامسة والسبعين من عمره وشعر بالنهاية فأسرع يتخلص من أمواله , وأوصى بالكثير منها لذوي القربى واليتامى والمساكين , ومن بقي من أهل بدر علي قيد الحياة 0
ولم يطل به الوقت , ودُعي إلي الغرف العالية بين القطوف الدانية , ليلتقي فيها بالأحبة الأبرار المبشرين مثله بجنة الرضوان 0
وفاته رضي الله عنه
توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين للهجرة عن خمسة وسبعين عامًا، وقيل اثنين وسبعين.
وصلى عليه سيدنا عثمان بن عفان، وقيل الزبير بن العوام، ودفن في البقيع بالمدينة المنورة.
هذا بعض من كل لصحابي جليل من أصحاب سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم تربوا وترعرعوا في المدرسة المحمدية وسط ربوع الإيمان 0
رحم الله تعالي سيدنا عبدالرحمن ابن عوف وأسبغ عليه سحابات رضوانه وسائر أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم 0
موضوع: واقعة واحدة تمثل الصورة الكاملة لحياة صحابي 
الثلاثاء نوفمبر 10, 2009 12:15 am
