أهل الحقيقة مع الله
حالة أهل الحقيقة
مع الله عز وجل
تـــــــــأليف
السيد الإمام الشيخ أبو العلمين
أحمد الرفاعي
512- 578 هـ
رضي الله عنه
شرحه وخرج أحاديثه وعلق عليه
الدكتور محمد حسيني مصطفى
للتحميل :
http://www.daraleman.net/uploads/AhelHaqiqaRifaa3y.rar
للقراءة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه وأتباعه ، وسلم
قال الإمام الشعراني (عبد الوهاب بن أحمد 898 -973 هـ) :
" قال الشيخ يعقوب رضي الله عنه خادمه : نظر سيدي أحمد رضي الله عنه إلى النخلة ، فقال : يا يعقوب انظرْ إلى النخلة ، لمّا رفعتْ رأسَها جعل الله تعالى ثِقْل حِمْلها عليها ، ولو حملت مهما حملت ، وانظر إلى شجرة اليَقْطين(1) لمّا وضعتْ نفسَها وألقتْ خدّها على الأرض جعل ثِقْلَ حملها على غيرها ، ولو حملت مهما حملت لا تحسّ به ".
وكان يقول : الفقير إنْ غضبَ لنفسه تَعِبَ ، وإنْ سلّم الأمر لمولاه نصره من غير عشيرة ولا أهل .
وأرسل إليه الشيخ إبراهيم البُسْتي كتاباً يحطّ عليه فيه ، فقال سيدي أحمد رضي الله عنه للرسول(2): اقرأه لي . فقرأه ، فإذا فيه : أيْ(3) أعور ، أيْ دجّال ، أيْ مبتدع ، يا من جمع بين الرجال والنساء ... حتى ذكر الكلب بن الكلب ، وذكر أشياء تغيظ . فلمّا فرغ الرسول من قراءة الكتاب أخذه سيدي أحمد رضي الله عنه وقرأه ، وقال: صدق فيما قال ، جزاه الله عني خيراً ، ثم أنشد :
فلستُ أبالي مَنْ رَماني بريبةٍ
إذا كنتُ عند الله غيرَ مُرِيبِ
ثم قال للرسول : اكتب إليه الجواب : " من هذا اللاش(4) حُميد إلى سيدي الشيخ إبراهيم البستي رضي الله عنه ، أما قولك الذي ذكرت فإن الله خلقني كما يشاء ، وأسكن فيّ
ما يشاء ، وإني أريد من صدقاتك أنْ تدعو لي ولا تُخْلِيَني من حِلّك(1) وحِلْمِكْ(2).
تلك من أنباء الشيخ الإمام السيد أحمد الرفاعي الذي كان يقال به شيخ الطرائق ، وأستاذ الجماعة ، والسيّد الكبير ، وسيّد العارفين ، أبي العباس ، وأبي العلمين(3)، محيي الدين أحمد بن علي بن يحيى بن ثابت ، وهو ينحدر من ذرّيّة الإمام علي رضي الله عنه ويقال له الرفاعي نِسْبة إلى جدّه السابع الحسن بن المهدي الهاشمي المكي (4) وكان يلقّب برفاعة ، وكان قد هاجر من مكّة المكرّمة إلى المغرب ، وقَرّ وقطن فيه ، وبقيت ذرّيته بالمغرب إلى زمن يحيى بن ثابت ، جد السيد أحمد الرفاعي ، الذي رجع إلى مكة المكرمة ، لكنّه لم يلبث فيها طويلاً حتى غادرها إلى العراق ، وهناك في بلدة أم عبيدة رُزِقَ ابنَه علياً والد السّيّد الرفاعي .
كان علي بن يحيى فقيهاً وتزوَّج من فاطمة الأنصارية ابنة خاله ، وولدتْ له أحمد في " قرية حسن " من أرض البطائح بين واسط والبصرة في العراق سنة 512 هـ .
وأكثر الروايات تذهب إلى أنّ أباه مات وهو في السنة السابعة من عمره فكفله خاله السيّد منصور الرّبّاني البطائحي(5)، فعُني به وبتربيته وتعليمه ، وكان منصور نفسه عالماً ، ويعد في جملة شيوخه . ومن شيوخه أيضاً أو أهمّهم القاضي المقرئ أبو الفضل علي الواسطي ، وهو شيخه في التصوّف ، ألبسه الخِرْقة وأجازه في علوم الشريعة والطّريقة وهو ابن عشرين سنة ، أما أبو الفضل علي فكان قد أخذ الطريقة
عن ابن كافح ، عن غلام بن تركان عن أحمد الروذباري عن علي العجمي ، عن أبي بكر الشبلي ، عن أبي القاسم الجنيد ، وتنتهي هذه السلسلة بالحسن البصري عن الإمام عليّ رضي الله عنه. وممَّنْ ذكر في شيوخه خاله أبو بكر بن يحيى النجَّاري ، وابن عمه سيف الدين عثمان ، وعبد السميع الخرتوني ، وعبد الملك الخرتوني . ودرس الإمام السيد أحمد الرفاعي الفقه الشافعي ، وحفظ كتاب التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي .
ومنذ أن نضجت معارفه أخذ يعقد حلقات التعليم والتوجيه في بلدة أم عبيدة ، فالتفّت حوله جموع كثيرة ، لتنهل من مَعِينه العَذْبِ الفقهَ والحديثَ والتفسيرَ والعقيدة وعلوم الطريقة أو الحقيقة ، وإلى طريقته ينتمي كثير من مشاهير المتصوفة ، مثل أحمد البدوي ، وإبراهيم الدسوقي ، وأبي الحسن الشاذلي ، وشيخه عبد السلام ابن مشيش ، والإمام الشعراني ، والإمام عبد الرحمن بن الكمال السيوطي. وما برح الإمام أحمد يفيض على مَنْ حولَه مِنْ علومه الشرعية والصّوفية، الكسْبيّة واللّدنيّة، ما يقارب أربعة عقود من الزمن ، إلى أنْ لبّى نداء ربّه ظهر يوم الخميس في الثاني عشر من شهر جمادى الأولى عام 587 هـ، فدفن في قبّة جدّه لأمّه ، الشيخ يحيى النجاري ، في بلدته أم عبيدة .
كان السيد الرفاعي رضي الله عنه إماماً قدوة ، عالماً عابداً زاهداً، طويل الصمت ، فإذا نطق بزَّ القائلين ، وسالت مِن فيه الكلم الحسان ، بل دُرَرُ العِقْيان(1)، وكان سهلَ الخُلُق ، ليّنَ العريكة ، كريم النفس ، حسن المعاشرة كثير الذِّكْر ، وما أكثرَ ما كان يختم تلاوة القرآن الكريم في نهار وليلة ، وكان يخدم نفسه ، ويَخْصِفُ نعله ، ويحدب على الأرامل واليتامى وذوي الحاجات ، ويُجلّ العلماء ، ويقول : هؤلاء أركان الأمة وقادتها ، وكان ذا ثروة واسعة يُمدُّه مولاه سبحانه بها من رَيْع أملاكه ، ومن أوقافه المحبوسة على رواقه ، ومما كان يبعث به إليه أتباعه في الأقاليم ، ولكن الإمام
الرفاعي كان غيثاً مِدْراراً لا يُمْسك من كلّ ذلك شيئاً ، وإنما يجودُ به على مَنْ حوله من مريديه وآمِّي رواقه ، وعلى البؤساء والمساكين .
وكان قد أصهر إلى خاله أبي بكر بن يحيى النّجّاري ، واقترن بابنته خديجة ، ورزق منها ابنتين فاطمة وزينب ، ثم ماتت ابنة خاله خديجة ، فاقترن بأختها رابعة ، ورزق منها ولداً سمّاه صالحاً ، وفي الطبقات الكبرى للشعراني وصية للإمام أحمد وجّهها إلى ابنه صالح (1)، ولكن خير الدين الزركلي قال : "مات ولم يخلف عَقِباً ، أما العقِبُ فلأخيه "(2)
وقد صنف الإمام الرفاعي كتباً كثيرة ، ذهب كثير منها لدى غزو المغول والتتار، ومما ذُكِر له من تلك الكتب : معاني بسم الله الرحمن الرحيم ، تفسير سورة القدْر ، الرواية (حديث شريف) ، الطريق إلى الله ، الصراط المستقيم ، البهجة ، رحيق الكوثر ، النظام الخاص لأهل الاختصاص ، المجالس الأحمدية ، كتاب الحِكَم ، شرح التنبيه ، راتب الرفاعي (حزبه ، وهو آيات وأذكار وأدعية) ، أو المصباح المنير في ورد السيد الرفاعي الكبير ، السِّرّ المصون ، البرهان المؤيد ، حالة أهل الحقيقة مع الله ، وفي " حالة أهل الحقيقة مع الله " روى هو نفسه بأسانيد متصلة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أربعين حديثاً ، ودرسها دراسة مستفيضة ، وأودع هذه الدراسة مواعظه وطريقته .
وكان الإمام الرفاعي يجيد القريض ، ومنه قوله :
تعوَّدْ سَهَرَ اللَّيْلِ
ولا تَرْكَنْ إلى الَّذنْبِ
وقُمْ للواحد الفَرْدِ
فإنّ النومَ خُسْرانُ
فعُقبى الذَّنْب نيرانُ
فللقرآن خِلاّنُ
ومن الأبيات الذّائعة قوله مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بحذاء قبره
الشريف :
في حالة البُعْدِ رُوحي كنتُ أُرسلُها
وهذه دَولةُ الأشباحِ قد حضرتْ
تقبِّلُ الأرضَ عنّي وهي نائبتي
فأمدُدْ يمينَك كي تحظى بها شفتي
فمدَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة من قبره الكريم ، فقبلها (1) أمام جمع من الحجيج .
بسم الله الرحمن الرحيم
[ أسانيد الشيخ أحمد الأخضر راوي الكتاب]
قال الشيخ الإمام السيد محيي الدين أحمد الأخضر بن السيد سلمان بن السيد أحمد بن السيد سليمان ، نزيل الرحبة ، ابن السيد إبراهيم بن السيد أبو المعالي عبدالمنعم بن السيد أبي العباس أحمد البطايحي نزيل الهُمامية (1) بواسط ، الرفاعي الحسيني رضي الله عنه وعن أسلافه الطاهرين أجمعين .
أُلْقِيَ برُواق عبيدةَ عامَ تسعة وأربعين وخمسمائة للقوم كتابُ "حالة أهل الحقيقة مع الله" أعني الكتاب الجليل ، والسِّفْرَ العديمَ المثيل ، الذي انتظم من أربعين مجلساً ، كلَّ يومِ خميسٍ مجلس ، وأولها أول خميس من شهر رجب من ذلك العام ، وقد صدر من لسانِ قُطب الأقطاب (2) المتمكّنين ، سلطان الأولياء والعارفين ، مُحيي الحق والشريعة والدين ، الُمشَّرَفِ جهاراً بتقبيلِ يدِ جَدِّه سيد المرسلين ، مصباح المعرفة المنير ، مولانا وشيخنا ومُرْشدنا إلى الله تعالى السيد أحمد الرفاعي الحسيني الحسني الأنصاري الكبير رضي الله عنه ، وعنّا به ، ونفعنا والمسلمين بعلومه ، فهو روحٌ من وروح القدس ، وحالٌ من حالِ حضرةِ الأنس ، يدلُّ على الطريق ، ويأخذ للتمسُّكِ بالعهد الوثيق ، ويُلزم بالاستقامة ، ويُفرغ في القلب التزامَ منهج أهل السلامة ، وإني قد قرأته في أربعين مجلساً بعد الإجازة به على سيدي ومولاي ، القُطْب الفَرْد الأوْحد السيد شمس الدين أحمد المستعجل بن الرفاعي رضي الله عنه في رُواق أم عبيدة ، وهو قال: قرأته في أربعينَ مجلساً بعد الإجازة به على جدِّي لأمي السيد القُطْب العارف بالله تعالى
نجم الدين أحمد بن الرفاعي رضي الله عنه ، وهو قال : قرأتُه في أربعينَ مجلساً بعد الإجازة به على أخي وسيدي ومولاي القطب الأعظم أبي إسحاق السيد إبراهيم الأعزب رضي الله عنه، وهو قال : سمعته في أربعينَ مجلساً من لسان جدي القطب الغوث الأكبر ، سلطان الأولياء والعارفين ، سيدنا السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه ونفعنا بعلومه ، وقد استجزْتُهُ به فأجاز.
وسمعته أيضاً من جامعه الشيخ العارف بالله الفقيه أبي شجاع بن منجح الشافعي رضي الله عنه انتهى.
وقد أجازني بقراءته الشيخ الفقية عفيف الدين أبو طالب المقري الصوفي ، وهو قال: أجازني بقراءته الشيخ العارف العالم الشريف شرف الدين أبو طالب بن عبد السميع العباسي الهاشمي ، وهو قال : قد أجازني بقراءته القاضي الشيخ الصالح الفقيه الجليل جامعه أبو شجاع بن منجح الشافعي الواسطي ، وهو قال : قد أجاز بقراءته بعد جمعه كما تلقيناه في جمٍّ غفير من ناثر دُرَرِهِ الشريفة ، وناظم أساليبه المُنيفة ، سيدنا ومولانا القطب الغوثِ الأعظم ، حجة الله على أوليائه العارفين ، السيد محيي الدين الكبير الرفاعي الحسيني رضي الله عنه ونفعنا به .
ولنا من طريق الشيخ عفيف الدين الإذنُ بقراءة كتاب "البرهان المؤيد" الذي جمعه من كلام سيدنا السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه الشريفُ العلاّمةُ شرف الدين بن عبدالسميع العباسي رحمه الله عن الشريف شرف الدين عن صاحبه الإمام الرفاعي رضي الله عنه .
ولنا من هذا الطريق الإذن بقراءة الحِكَمِ الأحمدية بسندنا عن الشيخ عفيف الدين عن الشيخ شرف الدين عن أبيه الشريف عبدالسميع الهاشمي الواسطي عن ناسج برودها وناظم عقودها سيدنا الإمام السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه وعنهم أجمعين. وهذا نص ما تلقيناه عن مشايخنا رحمهم الله من كتاب (حالة أهل الحقيقة مع الله).
بسم الله الرحمن الرحيم
[ مقدمة الكتاب]
قال شيخنا وسيدنا شيخ الطوائف أبو العَلَمَيْن وارثُ رسولِ الثقلين ، القطبُ الغوثُ الجامعُ الحجةُ العارفُ القدوةُ إمامُ الأولياء السيدُ أحمدُ محيي الدين أبوالعباس الكبير الرفاعي الحسيني بن السيد أبي الحسن علي بن السيد يحيى بن السيد ثابت ، ابن السيد الحازم بن السيد أحمد بن السيد علي بن السيد الحسن، بن السيد المهدي ، ابن السيد أبي القاسم محمد ، بن السيد الحسن بن السيد الحسين ، بن السيد أحمد ، ابن السيد موسى الثاني ، بن السيد إبراهيم المرتضى ، بن الإمام موسى الكاظم ، بن الإمام جعفر الصادق ، بن الإمام محمد الباقر ، بن الإمام زين العابدين علي ابن زُبدة السادة الأئمة ، وعُمدة قادة الأمة ، الذي امتُحِنَ بأنواع البلاء ، أمير المؤمنين أبي عبدالله الإمام الحسين الشهيد بكربلاء ، ابن إمام الأئمة الأولياء ، وقائد أزمّة الأصفياء ذوي السوابق الكبرى ، والمفاخر والمناقب الوُفْرَى ، باب مدينة العلوم والحِكَم ، السيد الذي كلُّ مقامٍ له ممنوح ، المشبَّه بكبار الأنبياء كآدم وإبراهيم ونوح ، الذي قدرهُ كاسمه حسن وعلي ، أمير المؤمنين أبي الحسن علي رضوان الله عليه وعليهم أجمعين .
الحمد لله حمداً نصلُ به إلى كشف الحجاب ، ونعَدَُ به من الأحباب ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له ، ونشهدُ أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، وحبيبه وصفيُّهُ ، وخيرتُهُ مِنْ خلقه ، بعثه الله بالنورِ السّاطع ، والبيان اللامع ، والسيف القاطع ، فبلّغ الرسالة ، وأدّى الأمانة ، وأوضح السنّةَ ، وأسّس الشريعة ، ونصح الأمة ، وعَبَدَاللهَ حتى أتاه اليقين ، فصلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فهذه جُمَلٌ نذكر فيها (حالة أهل الحقيقة مع الله) ، ولا حول ولا قوةَ
إلا بالله ، وذلك لترتاض(1) النفوس ، ولتتروّح القلوبُ بنسبة ما ألفت إليه، وإلا فمنبعنا وقتي ، وثريدنا(2) طريّ ، من مائدة النبي صلى الله عليه وسلم، بالتنزُّل الإلهي ، ما فيه قَديد(3).
الحديث الأول
[ من يذوق طعم الإيمان؟ ]
حدثنا الشيخ الإمام المُقْري القاضي الثقة ، علي أبو الفضل الواسطي بمدرسته في واسط ، قال: أنبأنا أبو علي الحسن بن علي بن المهذّب ، قال: أنبأنا أبو بكر أحمد ابن جعفر القطيعي ، قال: أنبأنا عبدالله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد بن الليث بن سعد ، عن ابن الهادي ، عن محمد بن إبراهيم بن الحرث ، عن عامر بن سعد عن العباس بن عبد المطلب ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً(1)"، وهذا الذوق المنبعث عن هذا الرضا هو المعرفة بالله تعالى . والمعرفة نورٌ أسكنه الله تعالى قلب من أحبه من عباده ، ولا شي أجل وأعظم من ذلك النور ، وحقيقة المعرفة حياة القلب بالمُحيي (أوَمَن كان مَيتاً فأحييناه)(2) وقال تعالى : (ليُنذر من كان حياً)(3)، وقال تعالى (فلنُحييّنه حياةً طيبة)(4)، وقال: سبحانه : (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم)(5)، فمن ماتت نفسه ؛ بعدت عنه دنياه ، ومن مات قلبه بعد عنه مولاه ، وسُئل ابن السماك(6): متى يعرف العبد أنه على حقيقة المعرفة ؟ قال: إذا شاهد الحق بعين اعتباره فانياً عن كل من
سواه، وقيل: المعرفة فقدان رؤية ما سواه ، بحيث يصير ما دون الله تعالى عنده أصغر مِن خردلة ، قال تعالى: (قل الله ثم ذَرْهُم)(1)، مَن نظر إلى الله تعالى لم ينظر لا إلى الدنيا ولا إلى العقبى ، وشمس قلب العارف أضوأ من شمس النهار ، وأبهج منها في مطلع الأنوار.
طلعتْ شمسُ من أحَبّكَ ليلاً
إنّ شمسَ النهارِ تغربُ ليلاً
فاستنارتْ فما لديها غروبُ
وشموسُ القلوبِ ليست تغيبُ
قال ذو النون(2): إطلاع الحق سبحانه على الأسرار بمواصلة المدد ، كإطلاع الشمس على الأرض بإشراق الأنوار ، فعليكم بتصفية القلوب ، فإنها مواضع نظره ، ومواطن سره ، فإن من عرف الله لا يختار غيره حبيباً سواه ، وفي الخبر: "إن الله تعالى خلق الخَلْقَ في ظُلمة ، ثم ألقى عليهم شيئاً من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضلَّ وغوى"(3) وهو نور يخرج من سرادق المِنّة ، فيقع في القلب ، فيستنيرُ به الفؤاد ، ويبلغ شعاعه إلى حُجُب الجبروت ، ولا يحجبه عن الحق الجبروت ، ولا الملكوت ، فيصير العبد في جميع أفعاله وأقواله وحركاته وإرادته في حياته ومماته صائراً إلى النور، (الله نور السموات والأرض) (يهدي الله لنوره من يشاء)(4).
إن كنتَ لستَ معي فالذكرُ منك معي قلبي يراكَ وإن غُيِّبْتَ عن بصري
قال يحيى بن معاذ (1): المعرفةُ قربُ القلب إلى القريب ، ومراقبة الروح للحبيب ، والانفراد عن الكل بالملك المجيب ، وقال ذو النون: هي تخلية السر عن كل إرادة ، وترك ما عليه العادة ، وسكون القلب إلى الله بلا علاقة. وقال بعضهم: هيئتها جنون ، وصورتها جهل ، ومعناها حَيْرة ؛ فإن العارف يشغله علم الله تعالى عن جميع الأسباب ، فإذا نظر إليه الخَلْق استجهلوه ، ويكون أبداً في ميدان العظمة ولِهاً بين الخَلْق ، فإذا رأوه استجنُّوه ، ويكون بكلّيته فانياً بحب جلال عظمته تعالى ، مشغولاً عن مَن سواه ، فإذا أبصروه استدهشوه ، ولا يقدر أحد أن يُخبِر عن المعرفة بالله تعالى ، فإنها منه بَدت وإليه تعود . فالعارف فانٍ تحت اطِّلاع الحق تعالى ، باقٍ على بساط الحق بلا نفس ولا سبب ، فهو ميّتٌ حي ، وحيٌّ ميّت ، ومحجوبٌ مكشوف ، ومكشوفٌ محجوب ، تراه والهاً على باب أمره ، هائماً في ميدان برّه، مدْلالاً تحت جميل ستره ، فانياً تحت سلطان حكمه ، باقياً على بساط لُطفه . العارفون صارت أنفسهم فانية تحت بقائه وسلطانه عن كل حول وقوة ، تراهم باقين بحوله وقوته ، متلاشين عن كونهم وأسبابهم تحت جلال ألوهيته ، ملوكاً به دون مملكته ، فقرهم به وغناهم به ، وعزّهم به وذلّهم به.
يُروَى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : يا داود اعرفني واعرف نفسك. فتفكّر داود فقال: إلهي عرفتك بالفردانية والقدرة والبقاء ، وعرفت نفسي بالعجز والفناء. فقال : الآن عرفتني. وروي في الخبر: لو عرفتم الله تعالى حق معرفته لعلمتم العلم الذي ليس بعده جهل ، ولزالت الجبال بدعائكم مع أنه لا ينتهي أحد ولا
يبلغ منتهى معرفته أن الله تعالى أعظمُ من أن ينتهي أحد إلى منتهى معرفته(1).
وقال الإمام جعفر الصادق (2) عليه الرضوان والسلام : لا يعرف الله حق معرفته من التفت منه إلى غيره ، المعرفة هي طيران القلب في سرادق الأُنس والألفة ، جوّالاً في حُجُبِ الجلال والقُدرة ، وهذه حالة من صُمَّت أذناه عن البطالات ، وعميت عيناه عن النظر إلى الشهوات ، وخرس لسانه عن التكلم بالتُّرُّهات(3)، وقيل لأبي يزيد (4) ترى الخلقَ ، قال: به أراهم ، وسُئل محمد بن واسع (5) هل عرفت ربك فسكت ساعةً ثم قال : من عرف الله تعالى قلَّ كلامُهُ ، ودام تحيُّره ، وفني عن صور الأعمال ، وتحيّر مع الاتصال ، مُتقرِّباً في جميع الأحوال ، منقطعاً عن الحال إلى وليّ الحال ، فإن الأمور بحقائقها لا بالحسِّ وصورها.
قال أبو يزيد: ليس على تحقيق بالمعرفة ، من رضي بالحال دون ولي الحال . فإن من عرف الله كَلَّ لسانُه ، ودهش عقله . العارف إن تكلم بحالِه هَلَكْ، وإن سكت احترق . قال أبو بكر الواسطي(1): المعرفة على وجهين: معرفة الإيقان ، ومعرفة الإيمان ، فمعرفة الإيمان شهادةُ اللسان بتوحيد المَلِك الديّان ، والإقرارُ بصدق ما في القرآن ، وأما معرفة الإيقان فهي دوام مشاهدة الفرد الديّان بالجَنان ، وقال بعضهم : هي على ضربين ، الأول هو أن يعرف أن النعمة من الله تعالى ، قال الله تعالى (وما بكم من نعمةٍ فمن الله)(2) فيقوم بشكره ، فيستزيد به النعمة من الله بدليل قوله تعالى : (لئن شكرتم لأزيدنكم)(3)، والثاني رؤية المُنعِم من غير أن يلتفت إلى النعمة فيزيد شوقه إلى المُنعِم ، ويقوم بحق معرفته ومحبته ، وذلك قوله تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله)(4)، (فإن تولّوا فقل حسبي الله)(5)، وقال ذو النون المصري: هي على ثلاثة أوجه : أولها معرفة التوحيد ، وهي لعامة المؤمنين ، والثاني معرفة الحُجّةِ والبيان ، وهي للعلماء والبلغاء والحكماء ، والثالث معرفة صفات الفردانية ، وهي لأهل ولاية الله تعالى وأصفيائه الذين أظهر الله لهم ما لم يُظهر لمن دونهم ، وأعطاهم من الكرامات ما لم يجز أن يوصف ذلك بين يَدَيْ مَن لا يكون أهلاً له ؛ خصّهم الله من بين الخلائق واصطفاهم لنفسه واختارهم له ، فحياتهم رحمة ومماتهم غبطة ، طوبى لهم . وقال غيره: هي على وجهين : معرفة التوحيد ، وهو إثبات وحدانية الواحد القهّار ، ومعرفة المزيد ، وهي التي لا سبيل لأحد إليها .
أقول: هي كشجرةٍ لها ثلاثة أغصان توحيد وتجريد وتفريد ، فالتوحيد بمعنى الإقرار ، والتجريد بمعنى الإخلاص ، والتفريد بمعنى الانقطاع إليه بالكلية في كل حال . وأول مدارج المعرفة التوحيد ، وهو قطع الأنداد(1)، والتجريد ، وهو قطع الأسباب ، والتفريد وهو بمعنى الاتصال بلا سير ولا عين ولا دون ، ولها خمس طرائق. أولها : الخشية في السر والعلانية ، والثانية: الانقياد له في العبودية ، والثالثة : الانقطاع إليه بالكليّة ، والرابعة : الإخلاص له بالقول والفعل والنيّة ، والخامسة: المراقبة في كل خطرة ولحظة.
وحكي عن عبدالباري قال: خرجت مع أخي ذي النون فإذا نحن بصبيان يرمون واحداً بالحجارة ، فقال لهم أخي: ما تريدون منه ؟ قالوا: هذا رجلٌ مجنون ، ومع ذلك يزعم أنه يرى الله تعالى ، قال: فدنونا منه ، فإذا هو شابٌ وسيم ، ظهر عليه سيما العارفين ، فسلَّمنا عليه ، وقلنا: إنهم يزعمون أنك تدَّعي رؤية الله تعالى ، فقال: إليك عني يا بطّال(2)، لو فقدته أقل من طرفةِ عينٍ لَمُتُّ من ساعتي ، وأنشأ يقول:
طَلَبُ الحبيبِ من الحبيبِ رضاهُ
أبداً يلاحِظُه بعَيني قلبهِ
يرضَى الحبيبُ من الحبيبِ بقربـه ومُنى الحبيبِ من الحبيبِ لقاهُ
والقلبُ يعرفُ ربَّهُ ويراهُ
دونَ العبادِ ، فما يريدُ سِواهُ
فقلت له: أمجنون أنت ؟ فقال: أمّا عند أهل الأرض فنعم ، وأما عند أهل السماء فلا ، قلتُ: فكيف حالك مع المولى ؟ فقال : منذ عرفته ما جفوته ، فقلت منذ كم عرفته ؟ قال: منذ جعل اسمي في المجانين.
الحديث الثاني
[ الكيِّس والعاجز ]
أخبرنا شيخنا الإمام المُقري القاضي أبو الفضل علي الواسطي بمدرسته بواسطٍٍ ، قال: أنبأنا الشريف النقيب أبو الفوارس طرادُ بن محمد بن علي الزينبي ، قراءة عليه ونحن نسمع ، قال : أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد قال : أنبأنا أبو علي الحسين بن صفوان قال: أنبأنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا ، قال: أنبأنا الهيثم بن خارجة ، قال: أنبأنا بقية بن الوليد عني أبي بكر بن أبي مريم قال: حدثني حمزة بن جندب ، عن أبي يعلى شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الكيِّسُ مَن دانَ نفسه وعَمِلَ لِما بَعْدَ الموت ، والعاجزُ مَن أتبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله"(1) فالعمل بسرِّ هذا الحديث ، هو المعرفةُ . نعم ، إن المعرفة من العبد والتعريف من الرب تعالى ، وهي أشرف وأعظم الهدايا التي يُهديها إلى عباده ، فإن الله تعالى إذا أراد أن يختار عبداً من عبيده ويفضّله على من سواه من خَلْقِه، ويطْلِعَ في سِرّه شمسَ المعرفةِ ينظر إليه بعين الفضل والرحمة ، ويفتح له أبواب الهداية ثم يكرمه بالانتباه ، ويوقظه من نومة الغافلين ، ويُنعم ويمُنَّ عليه بشرح القلب ، ويُذهب عنه موت القلب بالفهم ، ويذهب عنه الوهم ، ويُكرِمه بالحياء والخوف واليقين ، ويُذهب عنه الشك وجراءة
الأمن ، فإذا اجتمعت في العبد هذه الخصال ، أشرق فؤاده بنور، فيرى ما دون حُجُبِ الجبروت ، وتشتاق إليه الجِنان ، ويخمد منه لهباتُ النيران ، ولو أن المعرفة نقشت على شيء ما نظر إليها أحد إلا مات مِن حسنها وجمالها ، لكل أحد رأس مال ، وهي رأسُ مال المؤمن .
وقال رجل لذي النون : إنّي لأحبك ، فقال : إن كنتَ عرفتَ الله فحسبك الله ، وإن لم تعرفه فاطلب مَن يعرفه حتى يدلك عليه .
وعندي أن المعرفة كشجرة يغرسها ملكٌ في بستانه ، ثمينةٍ جواهرها ، مثمرةٍ أغصانها ، حلوةٍ ثمارها ، طريفةٍ أوراقها ، رفيعةٍ فروعها ، نقية أرضها ، عذب ماؤها ، طيّب ريحها . صاحبها مشفقٌ عليها لعزّتها ، مسرورٌ بحسن زهرتها ، يدفع عنها الآفات ، ويمنع عنها البليّات ، وكذلك شجرةُ المعرفة التي يغرسها الله تعالى في بستان قلب عبده المؤمن ، فإنه يتعهّدُها بكرمه ، ويرسل عليها كل ساعة سحائبَ المِنّةِ من خزائن الرحمة ، فيُمطر عليها قطراتِ الكرامة ، برعد القُدرة ، وبرق المشيئة ، ليطهِّرها من غُبارِ رؤية العبوديةِ ، ثم يُرسِل عليها نسيمَ لطائف الرأفة ، مِن حُجُبِ العناية ، ليتمّ لها شرف الولاية بالصّيانة والوقاية ، فالعارف أبداً يطوفُ بسِرّه تحت ظلالها ، ويشمُّ من رياحينها ، ويقطع منها بِمنْجل الأدب ما فسد من ثمارها ، وحلَّ فيها من الخبث والآفة ، فإذا طال مقام سِرّ العارفِ تحتها ، ودام جولانه حولها ، هاج أن يتلذذ بثمارِها ، فيمدّ إليها يد الصفاء ، ويجتبي ثمارَها بأناملَ الحُرمةِ ، ثم يأكلها بفم الاشتياق ، حتى تغلبه نارُ الاستغراق ، فيضرب يدَ الانبساط إلى بحر الوداد ، ويشرب منه شربةً يسكر بها عن كل ما سوى الحقّ سكرةً لا يُفيق منها إلا عند المعاينة ، ثم يطير بجناح الهِمّة ، إلى ما لا تدركه أوهام الخلائق .
وقيل للواسطي : أي الطعام أشهى ؟ قال: لُقمةٌ مِن ذِكر الله تعالى ، تُرفَعُ بيد اليقين ، من مائدة الخُلْدِ ، عند حُسن الظّن بالله تعالى .
قال النساج (1): يخرجُ أكثر أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا طيباتها المقصودة ، قيل: وما هي ؟ قال: سرورُ المعرفة ، وحلاوةُ المِنّة ، ولذائذُ القُربة ، وأنسُ المحبّة .
وقال محمد بن واسع : حُقَّ لمن أعزّه الله بمعرفته أنْ لا يُذِلّ نفسه لغيره ، وحُقَّ لِمَنْ والاه الله بولايته أن يقوم بحقه ، وحُقَّ لمن أكرمه الله بصحبته أن لا يميل إلى غيره، ولا يعمل بهوى نفسه .
وقال أبو يزيد: إن في الليل شراباً لقلوب العارفين ، تطيرُ به قلوبهم حبّاً لله وشوقاً إليه، ألا إنّ الناظرين إليه لا إلى غيره ذهبوا بصفوةِ الدنيا والآخرة .
أقول: وهذا الشراب هو التحيُّر ، وهو على ضربين : تحير وَحشة وتحير دَهشة ، فتحيُّرُ الوحْشةْ للمطرودين ، وتحيُّرُ الدهشةِ للعارفين المشتاقين ، يا دليل المتحيرين زدني تحيُّراً.
الحديث الثالث
[ الإسلام والإيمان]
أخبرنا العبد الصالح الثقة الشيخ أبو محمد بن عبدالله بن الحسين بن أحمد بن جعفر الآمديُّ الواسطيّ ، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن كاتب الوقف بواسط ، قال: أنبأنا أبوالحسن محمد بن علي الرواسي إملاءً بجامع واسط ، قال: أنبأنا أبو القاسم عبيدالله بن تميم ، قال: أنبانا أحمد بن إبراهيم الإمام ، قال: أنبأنا علي بن حرب بن زيد بن الحباب ، قال: أنبأنا علي بن مَسْعدة الباهلي ، قال: أنبأنا قُتادة ، أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام علانيةٌ والإيمانُ في القلب والتقوى ها هُنا" ، يقولها ثلاثاً ويشير بيده إلى صدره صلى الله عليه وسلم (1)، والتقوى التي تقرُّ في القلب ، فتُحْكِم فيه الإيمان ، هي روح المعرفة .
أي سادة ، إن الله تعالى جعل لكل شيء قَدْراً ، ولكل قَدْرٍ حدّاً ، ولكل حد سبباً ، ولكل سبب أجلاً ، ولكل أجل كتاباً ، ولكل كتاب أمراً ، ولكل أمر معنى ، ولكل معنى صدقاً ، ولكل صدق حقا ، ولكل حق حقيقة ، ولكل حقيقة أهلاً ، ولكل أهل علامة ، فبالعلامة يُعْرَفُ المحقّ من المُبطل ، وكل قلب أقعده على بساط تحقيقِ المعرفة ، وقع بسيماء المعرفة على وجهه ، ويظهر أثرها في حركاته وأفعاله
وأقواله ، كما قال الله تعالى: (تَعْرِفُهُم بِسِيماهمْ)(1)، وقال صلى الله عليه وسلم : " من أسرَّ سريرة ألبسه الله رداءها ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر"(2).
وقيل ليحيى بن معاذ : ما بال العارفين أحسن وجوهاً ، وأكثر هيبةً مِنْ غيرهم ؟ فقال: لأنهم خلوا بالله مستأنسين ، وقربوا إلى الله متوجهين ، وفزعوا إليه متوالهين فكساهم الله بنور معرفته ، فيه ينطقون ، وله يعملون ، ومنه يطلبون ، وإليه يرغبون ، أولئك خواصّ الله السابقون ، سعيهم في طاعة الله من غير علاقة ، وينصحون العامة من غير طمع ، مشتاقون منيبون إلى الله تعالى ، قلوبُهم له وجِلة ، نفوسُهم وحشية وقلوبهم عَرْشية ، وعقولهم مغشيّة ، وأرواحهم ياسينية ، كلهم معصومٌ بلقبه عن فتنة الناس ، وذِكرُ الله يحميه من شر الوسواس ، صدره مشروح ، وجسمه مطروح ، وقلبه مجروح ، وباب الملكوت له مفتوح ، قلبُه مثل القنديل ، وجوارحه خاضعة كالمنديل ، لسانه مشغولٌ بتلاوة القرآن ، ولونه مُصفَرٌّ من خوف الهجران ، ونفسه ذائبةٌ في خدمة الرحمن ، وقلبه زاهرٌ بنور الإيمان ، نفسُه مشغولةٌ بالطلب ، وروحُهُ مشغولةٌ بقُرب الرب ، على لسانه وصف الربوبية ، وعلى أركانه خدمةُ الديمومية ، وعلى نفسه أثرُ العبودية ، وفي قلبه هيبة الفردانية ، وفي سِرِّه الطربُ بالألوهية ، وفي روحه شغف الوجدانية ، أفواهُهُم إليه ضاحكة ، وأعينهم نحْوَه طامحة ، وقلوبُهم به متعلقة ، وهمومُهم إليه واصلة ، وأسرارُهم إليه ناظرة ، رَمَوْا ذنوبهم في بحر التوبة ، وطرحوا طاعاتهم في بحر المِنّة ، وضمائرهم في بحر العظم ، ومرادهم في بحر الصفو ، وهممهم في بحر المحبة ، في ميدان خدمته يتقلّبون ، وتحت ظلال كرمه
يتنفسون ، وفي رياض رحمته يرتَعُون ومن رياحين امتنانه يشمّون . ينظرون إلى الدنيا بعين الاعتبار ، وإلى الآخرة بعين الانتظار ، وإلى أنفسهم بعين الاحتقار ، وإلى طاعتهم بعين الاعتذار لا الاستكثار ، وإلى الغفران بعين الافتقار ، وإلى المعرفة بعين الاستبشار ، وإلى المعروف سبحانه بعين الافتخار . يرمون أنفسهم إلى البلوى ، وأرواحهم إلى العقبى ، وقلوبهم إلى النجوى ، وأسرارهم إلى المولى. أنفسهم تاركةٌ للدنيا ، وأرواحهم للعقبى ، وقلوبهم مستأنسة بالذكرى ، وأسرارهم بحب المولى . قلوبهم معدن التعظيم والهيبة ، وألسنتهم معادن الحمد والمِدْحة ، وأرواحهم مواطن الشوق والمحبة ، وأنفسهم مقهورة تحت سلطان العقل والفطنة ، وأكثر همتهم التفكير والعبرة ، وأكثر كلامهم الثناء والمِدْحة . عملهم الطاعة والخدمة ، ونظرهم إلى لطائف صنع رب العِزّة . أحدهم تراه مُصْفرّاً من خوف فراقه ، ذائبَ الأطراف من هيبة جلاله ، طويل الانتظار شوقاً إلى لقائه ، سلك طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ورمى الدنيا خلف القفا ، وأذاق الهوى طعم الجفا ، وقام على قدم صدق الوفا ، حاله في الدنيا غريب ، وقلبه في صدره غريب ، وسرُّه في نفسه غريب ، فلا يستريح من غَمّ الغُرْبة ووَحْشَتها ، ما لم يصل إلى الحبيب ، فأمره عجيب ، والمولى له طبيب ، وكلامه وجدانيّ ، وقلبه فردانيّ ، وعقله ربّاني ، وهمه صمَداني ، وعيشُه روحاني ، وعمله نوراني ، وحديثه سماوي . جعل الله قلبه موضع سره وموطن نظره ، وزيّنه بحُلِيّ ربوبيته ، وأدخله دار الإمارة من سلطانه ، يدور بالفؤاد حول عزّته ، ويرتع في روضات قُدْسه ، ويطير بجناح المعرفة في سرادقات غيبه ، ويجول في ميادين قدرته ، وحُجُبِ جبروته ، لو رآه الجاهل بشأنه مات فزعاً بعد معرفته له من ساعته . علامَتُه في الدنيا أن يكون البلاءُ عنده عسلاً ، والأحزان رطباً . وفي الآخرة كل واحد يقول : نفسي نفسي ، وهو يقول : ربّي ربّي ، مُرادي مرادي . العارف علامته أربعة : حبُّهُ الجليلَ ، وتركه الكثيرَ والقليل ، واتّباعُه التنزيل ، وخوفه من التحويل . العابدُ ذو نَصَب ، والخائف ذو هَرب ، والمحب ذو شَغَب ، والعارف ذو طرب .
الحديث الرابع
[ ذو الوجهين]
أخبرنا شيخنا الولي التقي الثقة المُقْري القاضي أبو الفضل علي الواسطي القرشي بمدرسته في واسط ، قال: أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد ، قال: أنبأنا علي أبو طاهر الحسن بن الوزير أبي القاسم علي بن صدقة بن علي ، قال: أنبأنا أبو المطهَّر سعد بن عبدالله الأصبهاني ، قال: أنبأنا أبو نعيم أحمد بن عبدالله بن أحمد الحافظ ، قال: أنبأنا أبو محمد عبدالله بن جعفر بن فارس ، قال: أنبأنا أبو مسعود أحمد بن الفرات ، قال: أنبأنا أبو داود الحضري ، قال: أنبأنا ابن الربيع عن نعيم بن حنظلة ، عن عمار بن ياسر رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ذو الوجهين في الدنيا ذو لسانين في النار"(1) ولهذا صرف العارفون وجوههم إلى الله تعالى فلن ترى للعارف وجهين أصلاً ومن هذا السر أُمروا بعدم الجمع بين أستاذين ، وقالوا: إذا وُجد الأكمل الأفضل في طريق الله تعالى ، الأصح اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى المريد أن يتمسك به ، بل على كل مَنْ كان يزعم المشيخة أن يلتحق به هو وأولاده في الطريق، وهذا ضربٌ من أعظم أضراب المعرفة بالله.
أي سادة ، اعلموا أن العارفين على أصناف مختلفة ، ومناهج متفاوتة ، ومراتبَ متلوّنة ، وأنواعٍ متفرقة ، ومنازلَ متنوعة ، فمنهم مَنْ عرف الله بالقَدْرِ فخافه ، ومنهم من عرفه بالفضل فأحسن الظن به ، ومنهم مَنْ عرفه بالمراقبة فاعتقد الصدق ، ومنهم من عرفه بالعظمة فاعتقد الخشية ، ومنهم مَنْ عرفه بالكفاية فاعتقد الافتقار إليه ، ومنهم من عرفه بالفرادنية فاعتقد الصَّفوة ، ومنهم مَنْ عرفه به فاعتقد الوصلة ، فوُجِدَ أن الخوف على قدر عرفان القدرة ، ووُجْدان حسن الظن على قدر عِرْفان العظمة ، ووجدان الافتقار على قدر عرفان الكفاية ، ووجدان الصَّفوة على قدر عرفان الفردانية ، ووجدان الوصلة على قدر عرفان الربِّ تعالى ، وكذلك أهل السموات في العبادة على مقامات ، فمقام بعضهم الحياءُ والحُرْمة ، ومقام بعضهم القُرْبةُ والمُؤَانسة ، ومقام بعضهم رؤيةُ المِنَّة ، ومقام بعضهم المراقبة ، ومقام بعضهم الهيبة ، كما قال الله تعالى: ( وما مِنّا إلا له مقامٌ معلوم)(1)، فأهل المعرفة عامَّتُهم يعرفونه على سبيل الخبر في التوحيد عن الصادق الأمين ، سيدنا وسيد العالمين محمد صلى اللهُ عليه وسلم ، فصدَّقوه بقلوبهم وعملوا بأبدانهم ، إلا أنهم دنَّسوا أنفسهم بالذنوب والمعاصي ، فعاشوا في الدنيا على الجهل والتقصير ، فهم على خطرٍ عظيم ، إلا أن يرحمَهم أرحمُ الراحمين ، وأناسٌ فوقهم يعرفونه بالدلائل ، وهم أهل النظر والعَقْل والفِكْر ، أيقنوا بالتوحيد من قِبَلِ الدلائل والآثار وآيات الربوبية ، استدلوا بالشاهد على الغائب ، واستيقنوا صحّة الدلالة ، فهم على طريق حسن ، إلا أنّهم عاشوا محجوبين عن الله تعالى برؤية دلائلهم ، وخواصُّ أهل المعرفة من أولي اليقين ، عرفوه به سبحانه ، فوقفوا متمكِّنين مع معرفتهم ، لا تَخْطَفُهم الأدلّة ، ولا تصرفهم العِلّة ، دليلهم رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم ، وإمامُهم القرآن ، ونورهم يسعى بين أيديهم ، فمن عرفه تعالى بالخبر ، كمَثَلِ إخوة يوسف ، إذ عرفوا لونه وغفلوا عنه حتى افتضحوا بين
يديه ، حيث: (قالوا إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل)(1) ومن عرفه بالدلائل كمَثَلِ يعقوب ، إذ عرف أن يوسف يُعَدُّ في الأحياء فازداد حُزناً وبكاء ، واحتمل ما احتمل من أنواع البلاء ، حتى ابيضَّت عيناه من الحزن عِلْماً منه بحياته ، وشوقاً إلى لقائه ، حتى قال: (اذهبوا فتحسَّسُوا من يوسف)، وقال: (إنّي لأجد ريحَ يوسف) ، حتى قال مَنْ غفل عنه : (قالوا تاللهِ إنَّكَ لفي ضلالِكَ القديم)(2) وقالوا: (تفتؤُا تذكُرُ يوسُفَ)(3) الآية ، ومَثَلُ مَنْ عرفه به ، كبنيامين (4) حين أخذه يوسف لنفسه ، فقال: يا أخي أمشاهدتي تريد أم الرجوع إلى أبيك؟ قال: بل مشاهدتك أريد ، قال: فإن أردتني فاصبر على مِحْنتي ، قال: نعم أحتمل لأجلك كل بلوى ، أليس أني أبقى معك ولا أفارقك ، ثم أخرج الصاعَ من وعائه ، ونسبه إلى السَّرِقة، حتى عابه أهلُ مصر على ذلك ولاموه ، وشتمه إخوته ، وهو في ذلك كلِّه مسرورٌ ضاحكٌ في سِرِّه ، ولم يَخَفْ من لومة اللائمين ، فهذا مَثَلُ مَنْ عرفه من أهل اليقين .
وقال شيخ الطائفة الإمام الحسن البصري(5) رضي الله عنه: أهل المعرفة في الدنيا على ثلاث منازل ، رجل لقي العبادة فعانقها وخلط بها لحمَه ودمَه ، وفزع إليها قلبُه ، وعًلِمَ أن الله تعالى رازقُه وكافيه ، فوثِقَ بوعده فلم يشغل نفسه بشيء من
أمور الدنيا ، جعل السماء سقفه ، والأرضَ بساطه ، ولا يبالي على يُسرٍ أصبح أم على عُسر ، أمسى يعبد الله تعالى حتى يأتيَه اليقين ، فهذا الضرب في الدنيا أعز من الكبريت الأحمر . ورجل آخر لم يصبر كما صبر الأول ، فطلب كِسْرَةً من حِلِّها(1)، يقيم بها صُلْبَهُ ، وخِرْقة يواري بها عورته ، وبيتاً يسكنه ، وزوجة يستعفُّ بها ، وهو مع ذلك شديد الخوف عظيم الرجاء ، فهو على طريق حسن وأما الثالث فإنه لا يصدق الله بقوله ، فيبني القصرَ المشيد ، ويركب المركب الفَرِهَ(2)، ويستخدم الخدم ، فليس له في الآخرة من خَلاق(3)، إلا من يرحمه أرحم الراحمين.
رأيت في بعض الأخبار: أن عيسى بن مريم عليه السلام مرَّ بنفر من الناس ، قد نحلت أبدانهم ، وتغيرت ألوانهم ، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الخوف من النار ، فقال: حق على الله أن يُؤَمِّنَ(4) الخائف ، ثم بلغ إلى نفر آخر ، فإذا أبدانهم أشد نحولاً ، وألوانهم أشد تغيراً ، فقال: ما الذي بلغ بكم ؟ قالوا: الشوق إلى الجِنان ، فقال: حق على الله أن يعطيكم ما ترجون ، ثم مر حتى بلغ نفراً ثالثاً فإذا أبدانهم أشد نحولاً وألوانهم أشد تغيراً ، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الحب لله والشوق إليه ، فقال لهم عيسى عليه السلام : أنتم المقرَّبون ، ثلاث مرات ، فأهل المعرفة ثلاث أصناف ، صنف يمشون على قدم الافتقار والاضطرار ، وصنف يمشون على قدم الاعتبار والانكسار ، وصنف يمشون على قدم الافتخار والاستبشار ، قال الله تعالى: (فمنهم ظالمٌ لنفسه) (5).
والناسُ في مشهد المعرفة على مرتبتين ، إما في يقظة المعرفة فهم في تربية الولاية فينظرون الكرامة ، وإما في نوم الفضلة فهم في تربية العداوة ، فهم ينظرون الأمانة ، إلا أن يرحمهم أرحم الراحمين . فسبحان مَنْ خَصَّ مِنْ عبيده مَنْ شاء وأعطاهم ثم دعاهم إلى نفسه بفضله حيث قال: (وأنيبوا إلى ربكم)(1)، فأجابوه وأنابوا إليه ، فهم على أصنافٍ شتى ، فالتائبون يمشون برِجْل الندامة على قدم الحياء ، والزاهدون يمشون برجل التوكل على قدم الرضا ، والخائفون يمشون برجل الهيبة على قدم الوفاء ، والمحبون يمشون برجل الشوق على قدم الصفاء ، والعارفون يمشون برجل المشاهدة على قدم الفناء ، فالمعرفة طعامٌ أطعمه الله مَنْ شاء من عباده ، فمنهم مَنْ يذوقه ذوقاً ، ومنهم مَن يأكل منه بلاغاً ، ومنهم مَن يأكل منه كَفافاً ، ومنهم مَن يأكل شِبَعاً ، والناس في المعرفة على منازل ، فمنهم من يكون منزله كشِعْب ، ومنهم مَن يكون كقرية ، ومنهم من يكون كمِصْر ، ومنهم من يكون منزله منها كالدنيا والآخرة . رُوي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أخرجوا مِن النار مَن قال لا إله إلا الله وفي قلبه حبة خردل من الإيمان"(2)
وقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه(1)، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وما ذلك إلا حقيقة المعرفة ، فيقول لهم الرب تعالى: أنتم عبيدي حقاً ، فقد طال شوقكم إليّ ، وشوقي إليكم ، السلام عليكم عبيدي ، فها أنا حبيبكم ، فبعزتي ما خلقتُ الجنة إلا من أجلكم ، فلكم اليوم ما شئتم .
وحُكي أن مالك بن دينار(2) وثابتاً البناني(3) رحمهما الله ، دخلا على رابعة البصرية(4) فقالت لمالك: أخبرني لم تعبد ربك؟ قال: شوقاً إلى الجنان ، فقالت لثابت : وأنت يا غلام؟ فقال: خوفاً من النيران ، فقالت: أنت يا مالك مثل أجير السوء لا يعمل إلا طمعاً ، وأنت يا ثابت مثل عبد السوء ، تعمل خوفاً من الضرب ، فقالا: وأنتِ يا رابعة ، فقالت: حباً لله تعالى ، وشوقاً إليه.
وحُكيَ أن ذا النون المصري رضي الله عنه كان يعظ الناس ذات يوم وهم
يبكون، وفيهم شابٌّ يضحك ، فقال له: ما لك يا فتى؟ فقال ينشد ويقول:
كلُّهم يعبدون من خوف نارٍ
أو بأن يسكنوا الجنان فيُضحوا
ليس في الخلد والجِنان هوائي
ويرون النجاة حظاً جزيلا
في رياضٍ عيونها سلسبيلا
أنا لا أبتغي بحبّي بديلا
الحديث الخامس
[ انصرْ أخاك]
أخبرنا شيخنا الصالح الثقة العارف بالله القاضي أبو الفضل علي الواسطي رضي الله عنه ، قال: أنبأنا القاضي أبو بكر محمد بن عبدالباقي بن محمد البزاز، قال : أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي ، قال : أنبأنا أبو محمد بن عبدالله بن محمد البزاز ، قال: أنبأنا أبو مسلم إبراهيم بن عبدالله بن مسلم البصري ، قال: أنبأنا أبو عبدالله الأنصاري ، قال: حدثنا حميد عن أنس قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : "انصر أخاك ظالماً كان أو مظلوماً ، قال: أنصُرُهُ مظلوماً فكيف أنصره ظالما ً؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرُكَ إياه"(1) أقول : هذا بشأن أخيك ، فكيف بك بشأنك ، أخيفوا نفوسَكم وامنعوها وازجروها.
أي سادة ، للعارف أربع أجنحة ، الخوف ، والرجاء ، والمحبة ، والشوق ، فلا هو بجناح الخوف فيستريح من الهرب ، ولا بجناح الرجاء فيستريح من الطلب ، ولا بجناح المحبة فيستريح من الطرب ، ولا بجناح الشوق فيستريح من الشغب ، والله تعالى بيَّنَ في كتابه نعْتَهم بقوله : (ترى أعيُنَهم تفيض من الدمعِ مما عرفوا من الحق)(2)، وقوله تعالى : (لا تلهيهم تجارة)(3) الآية ، وذلك لأن عمل العارف خالصٌ للمولى ،
وقوله مستأنس بالذكرى ، ونفسه صابرة في البلوى ، وسرّه دائم النجوى ، وفكره بالأفق الأعلى ، فمرَّةً يتفكر في نعم ربه ، ومرَّةً يجول حول سرادقات قدسه ، فحينئذٍ يصير حُرّاً عبدا ً، وعبدا حُرّاً ، وغنياً فقيرا ، وفقيراً غنياً ، هكذا يعدُّ ما أمكنه طَرداً وعكساً من الألفاظ ، مثل الموجود والمعروف ، والعزيز والمسرور ، والقريب والمحمود ، والناطق والساكت ، والمقبول والخائف ، والشاهد والغائب ، والباكي والضاحك ، وذلك لأن ضحكه وسروره في حزنه ، وحزنه في سروره ، وعِزُّه مختلطٌ بذُلِّه ، وذُلّه مختلطٌ بعِزِّه ، وخوفه ممزوجٌ برجائه ، ورجاؤه ممزوجٌ بخوفه ، لا خوف يذهب برجائه ، ولا رجاء يذهب بخوفه ، وهو بنفسه يعيشُ مع الناس ، وبقلبه مع الله تعالى ، لا تغلب معاملةُ نفسه مع الناس معاملةَ قلبه مع الله تعالى ، عزيزٌ ذليل ، فقيرٌ غنيّ ، كما قال أبو يزيد رضي الله عنه في مناجاته : إلهي،
كلّما قلتُ قد دنا حَلُّ قَيدي قَيَّدوني وأوثقوا المِسْمــارا
وكان يسيلُ الدمعُ من عينيه عند هذه الكلمة ، وليس كل مَنْ يُرى عليه أثر الزهد فهو زاهد ، وكذلك أثرُ الرغبة والحماقة والجنون والبطالة والغفلة.
إن الله تعالى كلما نظر إلى قلب عبد من عبيده بالفضل والرحمة كشف عنه حجاب الغفلة ، وأظهر له لطائف القدرة ، فعند ذلك لابد له من إحدى ثلاث ، إما أن يصير حكيماً يتصل به الخلق إلى الله ، وإما أن يكلَّ لسانه فيصير مدهوشاً مبهوتاً ، وإما أن يصير مستوراً في حُجُبِه ، محفوظاً في قبضته ، حتى لا يراه غيره لشدة غيرته عليه ، فسبحان من حجب أهل معرفته عن جميع خلقه ، حجبهم عن أبناء الدنيا بأستار الآخرة ، وعن أبناء الآخرة بأستار الدنيا ، وذلك أن أهل المعرفة عرائس الله تعالى في أرضه ، والله مَحْرَمُهُم، لا مَحْرَمَ لهم غيره ، فهم عند الله مخدورون.
وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : يا داود أوليائي في قباب لا يعرفهم إلا أوليائي ، فطوبى لأوليائي ، ثم طوبى لأحبائي ، يقال: لو بدت ذَرَّةٌ من نور النبي عليه الصلاة والسلام لاحترق ما بين العرش إلى الثرى.
قيل لرابعة : ما كمال حال العارف ؟ قالت: احتراقُهُ بحبه لربه ، وعلامته أن يكون مستغنياً بالمُعطي عن العطاء ، وبالمكوِّنِ عن الكون ، مستغرقاً في بحار سرور وِجْدانِه ، ساكناً بقلبه معه ، مع ترك كل اختيار لنفسه ، ولا يجزع عند الشدائد والبلوى لرؤيته ، ويعلم أن الله تعالى أقرب إليه من كل شيء ، وأرحم عليه من كل أحد ، وأعزُّ وأكبرُ من كل شيء ، وأن لكل شيء خلفاً ما خلا الله تعالى.
لكلِّ شيءٍ عدمتُهُ خَلَفْ وما لفقْدِ الحبيبِ مِنْ خَلَفْ
وإنما يُعرف العارف ، إذا ميّز الخواطر النفسية من الخواطر الروحية ، والإرادة الدنيوية من الأُخْرَوِيّة ، والهمم العُلْوية من السُّفْلية ، فمن رُزِقَ التوفيق إلى حفظ حدود صدق وفاء العبودية ، والقيام بشروطها ، ووجد السبيلَ إلى طريق حفظ تحقيقها ، ثم قام بذكره ، وذَكَرَ ذِكْرَه ، ثم شكره ، وشَكَرَ شُكْرَهُ ، فيصيرُ مع النفسِ بلا نفس ، ومع الروح بلا روح ، ومع الخَلْقِ بلا خلق.
كما قال الإمام ابن عباس رضي الله عنهما : بلغنا أن عيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام بينما كانا يسيران في بعض الطُرُق ، فصدم يحيى امرأة ، فقال له عيسى: يا بن خالتي ، لقد أصبت اليوم ذنباً عظيماً ، قال: ما هو؟ قال: امرأة صدمتَها ، قال يحيى: والله ما شعرتُ بها ، فقال عيسى: سبحان الله نفسُك معي ، فأين قلبُك وروحك ؟ فقال : عند الله ، يا عيسى لو سكن قلبي إلى جبريل ، أو إلى أحد غير الله طرفةَ عين ، لظننتُ أنّي ما عرفتُ الله حقَّ معرفته.
وقيل: المعرفةُ خمسة أحرف ، فمن وجد في نفسه معناها فليعلم أنه من أهلها ، بالميم مَلَكَ نفسَه ، وبالعين عَبَدَالله على صِدْق الوفاء ، وبالراء رغب إلى الله بالكُلّية ، وبالفاء فوّض أمره إلى الله ، وبالهاء هرب من كل ما دون الله إلى الله ، فكل عارف يملك نفسه بقدر معرفته بكبريائه تعالى وعظمته ، ويعبدُ ربه على قدْر معرفته بربوبيته ، ويرغب إليه على قدر معرفته بفضله وامتنانه ، ويفوِّض أمره إليه على قدر معرفته بقدرته ، ويهرب إليه على قدر معرفته بملكه وسلطانه ، فهو عارف.
الحديث السادس
[ استجابة الدعوة]
حدثنا الشريف محمد بن عبدالسميع العباسي الهاشمي الواسطي ، قال: أخبرنا الحاجب أبو شجاع محمد بن الحسين ، قال: أنبأنا النقيب أبو الفوارس طراد بن محمد ابن علي الزبيبي الهاشمي ، قال: أنبأنا أبو محمد عبدالله بن يحيى بن عبدالجبار السكري ، قال: أنبأنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار ، ق